عنيزة وأهلها في كتب الرحالة الأجانب
سعد الصويان
حينما طلب مني الأخ صلاح السليم أن أقدم محاضرة لهذا الجمع الكريم
احترت قليلا لأنه لم يسبق لي أن ألقيت محاضرة أمام صالون عائلي·
فالمواضيع الجادة والخلافية قد لا تبدو مناسبة في مثل هذا السياق،
والمواضيع الترفيهية أو الخفيفة قد يفهمها البعض على أنها مواضيع
سطحية لا تستحق الطرح· ما أخرجني من هذه الحيرة وحدد موضوع محاضرتي
أمامكم لهذا اليوم هو مقالة قرأتها في صحيفة اليوم للشيخ الجليل
محمد الصفار نشرت بتاريخ 14 أبريل تحت عنوان "عنيزة: شموخ وتسامح"
يمتدح فيها تسامح أهالي عنيزة، كما كان الزميل عبدالله ابراهيم
الكعيد هو الآخر كتب مقالة عن التسامح عنوانها "التماهي اللطيف بين
عنيزة والقطيف"· وحيث أنني ألقي محاضرتي هذه في صالون أحد عوائل
عنيزة في المنطقة الشرقية قريبا من القطيف ومن الشيخ الصفار، وحيث
لا يخفى عليكم أن موضوع التسامح أصبح موضوع الساعة، بل حاجة وطنية
ملحة ينبغي علينا جميعا أن نسعى لتحقيقها والدفع بها وتجذيرها في
مجتمعنا، لذلك كله رأيت أن أتطرق في هذه المحاضرة لحدود التسامح
عند أهالي مدينة عنيزة وبحث جذوره التاريخية معتمدا في ذلك على ما
كتبه الرحالة الأجانب عن هذه المدينة منذ القرن التاسع عشر· لكنني،
إضافة إلى الحديث عن موضوع التسامح، وبحكم أن الكثير من الحضور
الليلة من أهالي عنيزة، سوف أستغل مثولي أمامكم في هذه المناسبة
لأورد بعض التفاصيل عن المدينة في سابق عهدها وعن أهلها وعوائلها
وتجارتها حيث يبدو أننا مع ما تمر به بلادنا من تطور سريع نسينا
الكثير من التفاصيل عن حياتنا الماضية، فلعلنا نستعيد بعض هذه
التفاصيل هذا اليوم والتي وإن كانت تخص مدينة عنيزة تحديدا إلا أن
الحضور ممن هم ليسوا من تلك المدينة لن يجدوا اختلافا كبيرا بين ما
سأقوله هنا وما يتذكرونه عن مدنهم هم على اختلافها، سواء في نجد أو
في المنطقة الشرقية أو أي بقعة من بقاع المملكة·
لقد لقيت عنيزة اهتماما منقطع النظير من الرحالة الغربيين الذين
زارها العديد منهم وما سأتلوه عليكم الآن لا يعدو أن يكون ترجمة
حرفية لبعض المقاطع المختارة اقتطفتها من صفحات الكتب التي ألفها
هؤلاء الرحالة الأجانب وسجلوا فيها انطباعاتهم عن مدينة عنيزة
والتي زاروها ابتداء من بداية النصف الثاني من القرن التاسع عشر
وحتى بداية القرن العشرين· أولهم كان الرحالة الإيطالي كارلو
غوارماني الذي زار نجد عام 1864 ومر في طريقه بمدينة عنيزة وأمضى
فيها على ما يبدو يوما أو بعض يوم· وبعده زارها تشارلز داوتي صيف
عام 1878 وأمضى فيها شهري مايو ويونيو وسجل خلال مدة إقامته فيها
أدق التفاصيل عنها وعن أهلها ومعيشتهم وحياتهم اليومية· ثم زارها
جون فيلبي عام 1918 وبعد ذلك زارها أمين الريحاني· وحينما قرأت
الفصول التي تتحدث عن عنيزة في كتب هؤلاء الرحالة أذهلني اندفاعهم
في إطراء المدينة ومدح أهلها، لذلك فقد حاولت أن أقتصد في
الاقتباسات وأن أقتصر على البعض منها فقط حتى لا أتهم بالمبالغة
والتحيز وتزيين الكلام، فما سوف أذكره ما هو إلا فيض من غيض وما
تحمله كتب الرحالة من ثناء على عنيزة أكثر مما سأذكره لكم بكثير·
زار الرحالة الإيطالي كارلو غوارماني نجد عام 1864 ومر في طريقه
بمدينة عنيزة التي قال عنها إنها أكبر مدن نجد ويتاجر أهلها
بالخيول التي يشترونها من البدو بعد فطامها ليربوها عندهم ويعلفوها
حتى تكبر ثم يجلبوها إلى الكويت، ومنها تصدر إلى بلاد فارس والهند·
وقابل غوارماني زامل السليم أمير عنيزة ونعته بحدة الذكاء وتهذيب
الطباع· وقال عنه إنه صحيح البنية متوسط الطول وأنه، على خلاف
أهالي عنيزة، لا يحلق شعر شاربه ولا شعر رأسه الذي يجدله في أربع
ظفائر تتدلى من الجانبين، كما يفعل أبناء البادية· وقدر غوارماني
عمر زامل بحوالي 55 عاما· إلا أن المحرر الذي نشر كتابه أضاف
ملاحظة تقول إن عمر زامل الحقيقي حينما قابله غوارماني كان 35 سنة
معتمدا في ذلك على تشارلز داوتي الذي زار عنيزة بعد غوارماني بعشر
سنوات وقدر عمر زامل بحوالي 45 سنة· ومعلوم أن زامل قتل سنة 1891
في معركة المليدا مما يعني أنه عاش إحدى وستين سنة تقريبا·
وبعد غوارماني زار عنيزة في صيف عام 1878 الرحالة الإنجليزي ذائع
الصيت تشارلز داوتي قادما إليها من بريدة وقبل ذلك من حائل· يفتتح
داوتي حديثه عن عنيزة قائلا: كان زامل اسما محببا إلى نفسي حتى قبل
أن أقابله وأراه، فقد سمعت حتى خصومه من قبيلة حرب يثنون عليه·
ويذكر داوتي أن لزامل ستة أو سبعة أبناء أصغرهم علي الذي كان عمره
13 سنة وهو يشبه أباه· إلا أن فيلبي فيما بعد سيذكر أن زامل خلف
عشرة أبناء وست بنات وعبدالله هو أكبر أبنائه· ومن أبنائه علي الذي
قتل في معركة المليدا ولعلي من الأبناء عبدالله ومحمد· ومن أبناء
زامل أيضا صالح الزامل الذي قتل في وقعة جراب ويحي الذي توفي دون
أن يخلف أبناء ومحمد وإبراهيم وعبدالعزيز، أبو عبدالرحمن
العبدالعزيز·
في اليوم الذي وصل فيه داوتي إلى عنيزة أخذه علي الشيحتان أحد
رجاجيل الأمير زامل إلى مجلس الأمير تحت مئذنة الجامع في المكان
الذي يسميه أهل عنيزة "المجلس" في السوق التجاري، وبالتحديد سوق
القماش، ليس بعيدا من بيت الأمير في حارة الخريزة· وجد داوتي زامل
جالسا على دكة من الطين، أو ما يشبه العتبة، وسيفه إلى جنبه· وبعد
أن قرأ الأوراق الثبوتية التي ناولها إياه داوتي أجلسه بجانبه
يتحدث إليه ويؤانسه· وبما أن داوتي كان قد زار بيت المقدس عدة مرات
أطلق عليه الأمير زامل لقب "الحاج خليل"· يصف داوتي زامل بأنه
إنسان متدين بطبعه وصريح وصاحب ضمير وقال لا غرو أنه نظرا لمعدنه
الطيب سيكون شخصا طيبا ومثاليا أيا كان الدين الذي يعتنقه أو
الجنسية التي ينتمي إليها· فيه أناة وبرودة أعصاب تساعده في أحلك
الظروف على التفكير الهادئ السليم واتخاذ القرارات الصائبة، يحب
العدالة ويتعامل مع الجميع برفق ولين· ولم يأت إليه أحد أيا كان،
بما في ذلك البدو النزقين بطبعهم، إلا واستل منه الغيظ بصبره
المعتاد وتحمله وحكمته وابتسامته الهادئة وكلماته الطيبة ولا تسمع
منه إلا قوله: يكون خير انشا الله· وعلى عكس عبدالله اليحي، الأمير
السابق الذي اشتهر بالتبذير والكرم المسرف مما أدى إلى أن يُتوَفّى
مديونا، فإن زامل مقتصد ومدبر لأنه يعيش فقط على ما تكسب يمينه ولا
يثقل أهل مدينته بالضرائب الباهظة· فهو لا يتقاضى أي ضرائب على
الأدباش والدكاكين والبيوت· يفرض فقط خراجا على الزروع والنخيل
تتراوح من خمسة إلى سبعة بالمائة يذهب معظمها لبيت المال والمضيف·
وتجار المدينة أكثر ثراء منه والبعض منهم يتبرع سنويا للأمارة
بحوالي عشرة ريالات·
أمضى داوتي يومه الأول ضيفا على علي الشحيتان في منزله لينتقل بعد
ذلك ويسكن في أحد الدكاكين الذي بدأ منه يزاول التطبب· ثم انتقل
بعد ذلك إلى بيت صغير بجوار أحد الأشخاص الذي قال إنه من رجاجيل
الأمير· هذا الرجل وأمه شملا داوتي بعطفهما وكانت الأم الطيبة تعد
له الإفطار والعشاء يوميا وتملأ قربته بالماء وترعى شؤونه وتعامله
كأحد أبنائها· ولم تطل إقامته بهذا البيت حيث انتقل إلى مسكن آخر
بالقرب من الدكان الذي كان يمارس فيه التطبب·
بعد الظهر من يومه الأول في عنيزة تناول داوتي قهوة بعد الظهر في
قهوة زامل التي قال إنها مفروشة بالحصير بدون سجاد، وهذا الحصير من
نوع المداد التي يجلبونها من الأحساء· وكانت جدران القهوة مزينة
بالزخارف الجصية· وكان عبدالله، ابن الأمير زامل، يجلس خلف الوجار
يدخن غليونه ويعد القهوة للضيوف، وقد قدر داوتي عمره بحوالي 20
سنة· أثناء ذلك دخل علي السليم، عم زامل ونائبه في منصب الأمارة
الذي ينوب عنه حينما يضطر زامل للذهاب إلى ميدان الحرب للدفاع عن
البلد· يصف داوتي علي هذا بأنه وهابي متزمت لم يسلم عليه ولا حتى
كلمه أو نظر إليه لعلمه أنه نصراني· وعلي السليم، مثل غيره من
أهالي عنيزة، يتاجر بالإبل· ولما خلى المجلس من الضيوف كشف زامل عن
ذراعه للحكيم، أي الطبيب داوتي، وسأله إن كان لديه علاج لحساسية
مفرطة يشكو منها وحكة شديدة أدت إلى تقشر الجلد من ذراعه وتورمها·
تختلف طباع أهالي عنيزة المتحضرين عن أهالي حائل الأقرب إلى
البداوة والذين يرجفون خوفا بحضور أميرهم ابن رشيد· أما هنا فالناس
أحرار وأميرهم يتعامل معهم كواحد منهم· ويتمتع أهالي عنيزة بحرية
مدنية تبعث على الإعجاب فلا يتكبر عليهم أمراؤهم وقد يتصدى أفقرهم
للأمير يعارضه في وجهه ويرد عليه وربما يشتد به الغضب ويتهجم عليه،
لكن زامل الحليم يتحمل ذلك بكل صبر وكل ما يرد عليه به هو أن يقول
له: عين خير يابن الاجواد، عين خير الله يهديك· وينقل داوتي مثل
هذه العبارات بلهجتها العامية لكنه يرسمها بحروف لاتينية·
وفي اليوم الأول جاء عبدالله الخنيني وسلم على داوتي بمنتهى اللطف
واضعا يده بيده وترجاه أن يذهب معه إلى منزله لمعالجة أمه المريضة·
والخنيني، الذي قدر داوتي عمره بحوالي 40 سنة، من تجار عنيزة
المرموقين أتت ثروته من القمح الذي ترتفع أسعاره وتنخفض بدرجة
كبيرة ومفاجئة مما يتيح هامشا من المضاربة وتحقيق الأرباح لمن يعرف
كيف يستثمر هذه التقلبات في السعر· وقد سافر إلى الشام والهند
وأماكن أخرى، وله أملاك في البصرة تركها تحت رعاية أخيه صالح،
وأبوه يقيم في بغداد منذ حوالي ثلاثين سنة· وقد قدر داوتي قيمة بيت
الخنيني في عنيزة بما يعادل 1000 ريال ولو أُجّر لكان أجاره السنوي
حوالي 15 ريال· وقال داوتي إن بيوت الطين في عنيزة محكمة البنيان
وقد تعمر إلى أكثر من 100 سنة· ووجد داوتي في قهوة الخنيني في أحد
الروازن، أي الرف الذي يحفر في الجدار، بعض الكتب، منها موسوعة
البستاني المطبوعة في بيروت·
ويعمل الكثير من أهالي عنيزة بتجارة الخيل والإبل والأثرياء منهم
يملكون الأراضي والمزارع· ومن يذهب منهم إلى مكة عادة يشتري من
هناك عبيدا يبيعهم في القصيم أو العراق ويحصل جراء ذلك على ربح
جيد· وقدر داوتي عدد التجار المعتبرين في عنيزة بحوالي 15 شخصا·
وقال له عبدالله الخنيني إن ثروة أكبر التجار في عنيزة تقدر بحوالي
24.000 جنيه· وقال بأن أرباح القرض لمائة ريال قد تصل إلى 20% إن
دفعت نقدا أو من 30 إلى 50% إن دفعت تمرا أو قمحا· وقد أبدى
الخنيني وغيره من الفلاليح وملاك الأراضي اهتماما خاصا بطرق حفر
الآبار الارتوازية ومواطير الضخ ليستعيضوا بها عن السواني التي لا
تجذب من ماء البئر ما يكفي لري المزارع الكبيرة مما اضطرهم إلى
تقليص المساحات المزروعة إلى ما يقارب ثلاثة آكارات أي حوالي
12.000 متر مربع· وقد اصطحب الخنيني داوتي إلى مزرعته "المعيّاويه"
التي تقع في حارة الجناح ورآى هناك عربة بعجلات تستخدم لنقل التربة
والسماد في المزرعة، وهي العربة الوحيدة التي رآها داوتي في نجد،
وقال إن رؤية عربة في نجد شيء أغرب من رؤية بعير في شارع بيكادلي
بلندن·
في صبيحة اليوم الثاني ذهب داوتي مع علي الشحيتان لتناول الإفطار
عند الأمير زامل وجلس ثلاثتهم، الأمير وداوتي ورجل الأمير على
المائدة· وتعجب داوتي من دماثة خلق الأمير وبشاشته في التعامل مع
خادمه على قدم المساواة دون تمييز أو تعالي· ويتألف الفطور من خبز
التنور والرطب واللبن· ويمتدح داوتي نوعية الرطب في عنيزة ويقول إن
ريالا واحد يشتري ثلاثين رطلا من التمر· وفي الغداء بعث له الأمير
برجل خروف قال إن قيمتها حوالي 5 قروش· وقال أيضا إن البدو يجلبون
إلى المدينة غزلانا يبيعون الواحد منها بسبعة قروش· وفي اليوم
التالي جاء علي السليم، نائب الأمير، وطرد النصراني من الدكان الذي
يقيم فيه لأنه دكانه ولا يريد أن ينجسه النصراني· وبعد الظهر ذهب
داوتي إلى بيت زامل لعرض الأمر عليه ووجده جالسا على عتبة الدار
وقال له زامل لا نريد الدخول إلى القهوة لأنها مليئة بشيوخ البدو·
وكان شيوخ مطير قد وفدوا على زامل في ذلك اليوم للتشاور معه في
هجومهم المتوقع ضد قبيلة قحطان· كانت مطير موالية لعنيزة بينما
كانت قحطان موالية لبريدة· ذهب زامل وداوتي يتمشيان حتى وجدا ظلا
تحت أحد الجدران وجلسا على الأرض يتحدثان· وطلب الأمير من خادمه أن
يبحث لداوتي عن مكان آخر يقيم فيه·
قدر داوتي سكان عنيزة حين زارها بحوالي 15.000 وفي يوم الجمعة
تزدحم الأسواق بالناس، خصوصا البدو والفلاحين الذين يفدون إلى
المدينة من مزارعهم النائية للصلاة في المسجد الجامع· وقال داوتي
عن أهل عنيزة أنهم أناس متحضرون متأنقون في ملبسهم ومأكلهم
وتعاملهم، وحتى طريقتهم في المشي والحركة ويحيون بعضهم بعضا بلطف
وبشاشة، والبعض منهم يلبسون الطرابيش، خصوصا منهم التجار الذين
يكثرون من الأسفار إلى الخارج وبعضهم يلبس ما يسمى الشطفة أو
العقال المقصب بالزري· والأثرياء منهم يلبسون المشالح المعمولة في
العراق· وذوي المراكز الاجتماعية المرموقة يحملون الخيزران في
أيديهم والأمراء يحملون السيوف·
ومن مظاهر التحضر التي لاحظها داوتي على أهالي عنيزة أنهم يتناولون
طعامهم على مهل ويتحدثون ويتناقشون أثناء الأكل، على خلاف البدو
وأهل نجد عموما الذين يزدردون الأكل بصمت ويلتهمونه بسرعة وينهضون·
وبعض أطباق الأطعمة التي يقدمونها قريبة من الأطباق الموجودة في
الأمصار والعواصم المتحضرة، فهم يقدمون أطباقا من الفواكه والخضار
النيئة والمطبوخة ويدخنون النارجيله ويشربون أنواع مختلفة من
الشربيت والعصيرات المعمولة من الليمون ومن تمر الهند والتي يقول
إنهم على خلاف الأوربيين الذين يرتشفون عصيرهم ببطء فإن أهالي
عنيزة يكرعون العصير في نفس واحد والخادم واقف على رأسك ليأخذ منك
الكأس الفارغ· وعلى الرغم من تأصل شرب القهوة عند أهالي عنيزة إلا
أن فيلبي سيذكر لاحقا أنهم لم يعرفوا الشاي إلا منذ 35 سنة قبل
وصوله لها· والبعض منهم لكثرة أسفارهم يعرفون لغات أجنبية مثل
الإنجليزية والهندوستانية· وفي مجالسهم يتباحثون في الشؤون الدولية
والخلافات بين تركيا وروسيا وبين فرنسا وبروسيا ويعرفون بسمارك
والإسكندر قيصر بروسيا·
وبعد يومين من إقامة داوتي في عنيزة جاء إليه عبدالله العبدالرحمن
البسام رئيس بيت البسام وأحد التجار الذين يتاجرون مع مدينة جدة
والصديق الحميم لعبدالله الخنيني حيث أن الأثنين لا يكادان يفترقان
أحدهما عن الآخر، ويشكلان مع الأمير زامل فلاسفة عنيزة الثلاثة،
كما يسميهم داوتي· ومن أصدقائهم أيضا شخص يدعي ناصر السميري
as-Smiry
الذي يكبرهم سنا، وهو من أهالي عنيزة الذين يتاجرون مع مدينة جدة
ويشترك مع الخنيني في تجارة الخيول· ويصف داوتي البسام قائلا إنه
عريض الوجه سمح المحيا أنيق الهندام حلو الحديث فصيح المنطق لا
يتلفظ إلا بالكلام الطيب· رجل عاقل وحكيم لكنه مع ذلك مرح وبشوش
يحب الخير للجميع ويسارع إلى إسداء المعروف، حتى أنه كان هو الذي
يتولى أمر إطعام وترحيل الجنود الأتراك الذين يفرون من الجندية
ويمرون في طريقهم مدينة عنيزة· ويتمتع ابن بسام بسمعة طيبة في كل
نجد ويحترمه الجميع· وكان هو الذي سعى منذ سنتين إلى إبرام الصلح
مع ابن رشيد وذهب هو وعبدالله اليحي السليم والشيخ عبدالله ابن
عايض إلى مخيم ابن رشيد ليقنعوه بالانسحاب وفك الحصار عن بلدهم·
وتعرف داوتي على حمد اليحي السليم الذي دأب على استقباله والاحتفاء
به في مزرعته وأبدى داوتي إعجابه الشديد بالتعامل اللطيف الذي حظي
به من قبل أم حمد اليحي· وقال إن يحي، أبو حمد، الذي كان قد بلغ من
الكبر عتيا كان أمير حارة الخريزة سابقا· وكان عبدالله اليحي
السليم، الإبن الأكبر ليحي، وعم زامل هو الساعد الأيمن للأمير
زامل· ويقول داوتي إن بيت اليحي لا يعرف التزمت ولا التعصب وأن يحي
بالرغم من كبر سنه قال لهم عن داوتي الذي يسميه أهالي عنيزة خليل:
إن خليل مسيحي وكتاب المسيحيين هو الإنجيل الذي هو أيضا كلام الله·
وتكلم داوتي عن العمال الذين يحفرون الآبار ويعملون في مقاطع
الحصا، وقال إنهم يتقاضون أجورا مجزية لكن العمل لمدة سنتين في هذه
المهنة الشاقة والخطيرة كفيل بأن يودي بحياة الإنسان لأنهم يتنفسون
الغبار المتطاير من الصخور مما يؤدي إلى تفتت الرئتين· معظم
الأمراض التي يعاني منها أهل القصيم أمراض العيون والطحال والحمى
والجدري، وأنواع عديدة من الأمراض الغامضة يسمونها ريح· ومرض
الجدري كثيرا ما يؤدي إلى ذهاب البصر في أحد العينين أو كلاهما·
ويقول داوتي إن طريقتهم الخاطئة في التطعيم أدت إلى وفاة ما لا يقل
عن 500 شخص·
وعلى الرغم من القلاقل بين مختلف المدن والقبائل في المنطقة إلا أن
زامل بطبيعته رجل أمن وسلام لا يحب الحرب وينزع دوما نحو السلم لما
يراه في ذلك من مصلحة للناس وتشجيع للتجارة والمسابلة· حب زامل
للسلام ليس جبنا منه لكنه بطبعه ليس سفاحا ولا يحب سفك الدماء· ومع
ذلك يقول عنه داوتي إنه قائد شجاع ومظفر يعرف كيف يرسم الخطط
الاستراتيجية، أثبت حنكته في أكثر من مناسبة، حيث كان قائد كتيبة
أهل القصيم في الحملة السعودية ضد البريمي، وكذلك في حرب عنيزة مع
محمد بن سعود وحربهم مع قحطان في كون دخنة·
يقول داوتي إن حلفاء عنيزة من البدو هم مطير وعتيبة، بينما يتحالف
القحطانيون مع بريدة· وصدف أن فريقا من قحطان نهب حميرا لأهالي
عنيزة على أطراف المدينة، لذلك حينما هبط أحد القحطانيين للتبضع من
عنيزة قام بعض الأهالي بإلقاء القبض عليه واقتياده للأمير· ويقول
داوتي لو كان ذلك في حائل أو بريدة لقام رجال الأمير وجنوده بهذه
المهمة، أما في عنيزة فإن الأهالي أنفسهم هم الذين يقومون بحفظ
الأمن فيها ولكن بطريقة حضارية تخلو من العنف والغلظة·
وفي آخر أيامه بدأ داوتي يشعر بمضايقة الناس له ويقول بأن إمام
المسجد صار يحرض الناس ضده فصار الأطفال يرمونه بالحجارة أينما ذهب
وتنكر له العديد من الأصدقاء والناس الذين قال إنه لم يتوان في
السابق عن تقديم العلاج لهم· وكان علي السليم، نائب الأمير،
وعبدالله ولد زامل هم أكثر من سبب له المتاعب· ولم يملك الأمير
زامل ولا الخنيني والبسام أن يفعلوا شيئا لمساعدة داوتي خوفا من
الرأي العام في المدينة· وفي ليلة من الليالي أجبره الأمير علي على
مغادرة عنيزة وأوعز إلى أحد الجماميل أن يذهب به إلى مدينة
الخبراء، وهذا مما ضاعف قلق داوتي حيث أن الخبراء كانت تابعة
لمدينة بريدة، إلا أن معاملة أمير الخبراء عبدالله العلي له، على
خلاف الأهالي، اتصفت بالتسامح خصوصا وأنه يطمح أن ينجح داوتي في
علاج عيون أبيه الذي كان قد فقد البصر· وبعد ثلاثة أيام من إقامته
في الخبراء أرسل الأمير زامل يستدعيه ليعود إلى عنيزة من أجل
الذهاب إلى جدة مع قافلة السمن التي كانت تستعد للانطلاق إلى
الحجاز· ولم يسمح زامل لداوتي أن يعود إلى داخل المدينة وإنما
أسكنه في بستان يقع خارج المدينة في انتظار مغادرة القافلة، وهذا
البستان الذي يقع إلى الجنوب قليلا من العيارية يعود إلى تاجر من
أهالي عنيزة اسمه رشيد· كان رشيد، صاحب المزرعة غائبا وتولى أخوه
ابراهيم الاهتمام بها، كان ابراهيم هذا ممن شاركوا في حفر قناة
السويس مع آخرين من عنيزة وبقية بلدان القصيم· وكان ابن بسام
والخنيني هما اللذان أقنعا زامل بأن يستدعي داوتي من الخبراء ليسكن
في ذلك البستان خارج المدينة تجنبا للشغب حتى يحين موعد انطلاق
قافلة السمن، وقد أمضى داوتي ستة أسابيع في مزرعة رشيد التي تبعد
حوالي ثلاث كيلوات عن عنيزة في انتظار مغادرة القافلة الذي تأجل
إلى ما بعد معركة دخنة بين أهالي عنيزة ومعهم مطير ضد قحطان والتي
سقط فيها شيخ قحطان حزام بن حشر، وهو الذي رثاه حويدي العاصمي
القحطاني بقصيدته المشهورة:
رحنا وخلينا وديع الحفايا // على نفي مع ايسر القور نزال
حطوا على قبره رفيع البنايا // ورحنا منه مع طلعة الشمس حوال
لى واجملنا اللي يشيل الروايا // لى قربوا للشيل وثنات الاجمال
لو كل الاربع من خفوفه دمايا // ما هوب من كثر التعاليق ملال
غدى بيوم لا سقته الروايا // من فوق عد جنّبه كل همال
وحتى بداية النصف الثاني من القرن العشرين ظلت عنيزة محتفظة
بتخطيطها العمراني وبيئتها الاجتماعية وعاداتها وتقاليدها تماما
كما وصفها داوتي· فقد ظلت الحارات والشوارع والمزارع والأسواق
التجارية محافظة على سماتها وأسمائها· من الحارات التي ذكرها داوتي
ولا تزال على قيد الوجود بأسمائها القديمة الخريزة وام حمار
والجديّده والضليعة والعقيليه والشعيبي والجناح والملاح والضبط
والسفيلا والوهلان· وتفصل بين هذه الحارات مساحات من المزارع
وتتخللها الأزقة الضيقة التي تغطي معظمها أشجار النخيل وعادة ما
يفصل الشارع بين جزئي البيت اللذين يصل بينهما جسر يسمونه "قبه"·
ومن الأسواق التجارية يذكر داوتي المجلس والحيالة والمسوكف والقاع
وام العصافير· والدكاكين لها عتبات يعرض عليها البائع سلعته في
محادر وأوعية من الخوص، كما يجلس أصحاب التاجر ورفاقه على هذه
العتبات للتحدث معه ولتنشيط حركة السوق من خلال مساوماتهم مع
الدلالين الذين يذرعون الأسواق جيئة وذهابا يحرجون في مزاد علني
على ما يحملونه معهم بأيديهم من بواريد ورماح ودلال لعمل القهوة
وعباءات وغيرها· ويصف داوتي الحركة التجارية والصناعات التقليدية
في عنيزة قائلا إن الحرفيين من الصناع يصنعون الأسلحة والأواني
المنزلية، وهناك النحاسين والصاغة والنجارين الذين ينتجون الصحاف
والأبواب وأشدة الإبل والمحال والدراج للسانية، ومنتجاتهم تفي
بالغرض لكنها تفتقر إلى الأناقة لبدائية المعدات والأدوات التي
يستخدمونها· وهناك من يعملون بقطع الأحجار وحفر الآبار والفروش
المستخدمة في لوازم الفلاحة مثل اللزا والساقي· وهناك من ينحتون من
الرخام ما يسمى نقيرة وهي على شكل هاون يستخدم لسحن البن والهيل
والبهارات، إضافة إلى البنائين وعمال الجبص، وكذلك الخياطين
والمطرزين والخرازين· واكتسب صاغة عنيزة شهرة في الحجاز لإتقانهم
فن النقش والزخرفة على الذهب والفضة·
ومن ضمن البضائع المتوفرة في أسواق عنيزة، إضافة إلى باعة الأطعمة
والمأكولات، يجد الإنسان مختلف أنواع الأعشاب والأدوية المستخدمة
لعلاج البشر والحيوانات، وكذلك السكر ومختلف أنواع البهارات
والأبازير والأطياب والصابون الشامي (ابو عنز) الذي تجلبه قوافلهم
من مكة والمدينة· وفي مكان منعزل يجد المرء أسواق الحريم حيث يباع
البصل والبيض والملح والكبريت والمسامير والخبز واللبن· وفي يوم
الجمعة تغص الأسواق والمجلس بالنساء المحجبات اللائي يجلبن مختلف
أنواع الطيور من حمام ودجاج ومنتوجات زراعية، إضافة إلى القرب
المدبوغة والصملان·
سوف نتحدث عن فيلبي وانطباعاته لاحقا لكن لا بأس هنا من استباق
الأحداث لاستكمال المشهد التجاري في المدينة· كانت قد اتفقت زيارة
فيلبي مع حلول عيد الأضحى ورأى كيف تجلب الأغنام إلى سوق المدينة
والتي تتراوح أسعارها من 7 إلى 10 دولارات· ويقول فيلبي إنه رأى
دلالا يجلب بندقيتين أحدهما ماوزر ألمانية صناعة 1916 قيمتها 40
دولارا والأخرى أم نصف خشاب إنجليزية جديدة قيمتها 46 دولار· ومن
أنواع البنادق الأخرى التي رآها فيلبي مع الدلالين الشرفا
الانجليزية والصمعا وام احدعش وام تاج·
تختلف ظروف مجيء جون سانت فيلبي إلى عنيزة عن ظروف مجيء داوتي· قدم
فيلبي إلى عنيزة ضمن موكب الملك عبدالعزيز الذي كان حينها قد أحكم
قبضته على كامل منطقة القصيم ويخوض معارك ضارية مع ابن رشيد في
نواحي جبل طي· ومع ذلك جاء فيلبي إلى عنيزة يتتبع خطى سلفه داوتي
يحدق في الوجوه ويفتش في الأماكن بحثا عن ذكريات داوتي، وقد وجد أن
أسطورة داوتي، كما يقول، لا تزال عالقة في الأذهان، ومن يقرأ
مذكرات فيلبي يحس وكأن داوتي يطل عليه من علٍ ويشير إليه من بعيد
ليرشده أين يذهب ومن يقابل· لذلك جاءت مذكرات فيلبي لتؤكد ملاحظات
داوتي وتسد بعض الثغرات فيها وتلقي أضواء كاشفة علي ما يعتريها من
غموض أحيانا وربما افتراء على بعض أهل المدينة أحيانا أخرى، فنعرف
مثلا من فيلبي، وليس من داوتي، أن البستان الذي أمضى فيه داوتي ستة
أسابيع في انتظار مغادرة قافلة السمن المنطلقة إلى الحجاز كان يقع
في الملقا وأن المزرعة التي تخلى عنه عندها رفيقه الجمال الذي
أحضره من بريدة إلى عنيزة هي مزرعة ابراهيم السيف· كما نعرف أن
السبب في شن المطاوعة حملة على داوتي هو مجاهرته بنصرانيته وعدم
مراعاته البتة لمشاعر الناس الطيبين البسطاء، والأهم من ذلك أن
مجيئه تزامن مع حلول وباء الجدري مما اعتبره البعض غضبا إلهي بسبب
استقبالهم لذلك الكافر، كما يقولون· وقد قال عبدالله الحمد السليم
لفيلبي أن داوتي كان يفتقر إلى الحنكة، فلو أنه مثلا إذا طلبوا منه
أن ينهض للصلاة بدلا من أن يجاهر بنصرانيته قال : حلت البركة،
وامرٍ بخير، لسلم من أذى الناس·
في 23 أغسطس من سنة 1918 حط فيلبي رحاله في عنيزة بمعية الملك
عبدالعزيز الذي كان في طريقه إلى بريدة· وأمضى فيلبي في عنيزة
ثلاثة أيام ليلحق بعدها بالملك عبدالعزيز الذي كان قد سبقه إلى
بريدة· وبعد عشرين يوما عاد فيلبي من بريدة إلى عنيزة يوم 13
سبتمبر ليبقى فيها حتى 24 سبتمبر، وقد حل ضيفا على محمد بن سليمان
الحمدان· يبدأ فيلبي حديثه عن عنيزة قائلا:
سبق لي أن سمعت الكثير عن الفرق بين
عنيزة وغيرها من مدن نجد، عن كرم أهلها وحفاوتهم بالغريب وخلوهم من
أي تعصب ديني أو مذهبي· لكن يجب على أن أعترف بأن التجربة الواقعية
أدهشتني وأذهلتني· بدا لي أنني فجأة خرجت من عالم بدائي لألج عالما
متحضرا يمتلك ثقافة عالية حيث يلقى الغريب داخل أسوار المدينة فوق
ما يتصوره من الترحيب وحسن الضيافة بدلا من أن يكون محل شك أو ريبة
وكأنه ضيف على سكان المدينة جميعهم· ويبالغ أعيانها في إغداق كرمهم
عليه دون رحمة أو هوادة· وضيافتهم ليست فقط سخية ولكنها أيضا في
منتهى الذوق والترتيب والأناقة· إنها حقا جوهرة المدن العربية
gem among Arabian cities·
ولعلنا نذكّر بأن فيلبي، وليس الريحاني، كما يعتقد البعض، هو أول
من أطلق لقب باريس نجد على مدينة عنيزة· وقبل فيلبي أطلق داوتي على
عنيزة اسم "ام نجد"·
حينما وصل فيلبي إلى عنيزة كان أميرها السابق عبدالعزيز العبدالله
السليم قد تنازل طوعا منذ سنة عن أمارة البلد لابن أخيه عبدالله
الخالد البالغ من العمر حوالي 40 أو 45 سنة والذي كان أول من دعى
فيلبي لتناول القهوة والإفطار في منزله· وبعد مراسم الاستقبال
انتقل الأمير وضيفه والحضور إلى المختصر لنفث الدخان، ويقول فيلبي
أنه لأول مرة رغم طول إقامته في نجد يمر بهذه التجربة التي يسمح له
بها بالتدخين· وقد أمضى الأمير عبدالله الخالد 14 عاما فارا من
عنيزة أثناء فترة استيلاء ابن رشيد على المدينة من عام 1891 وحتى
عام 1904 وأثناء هذه الفترة زاول التجارة وتنقل في عدة بلدان وزار
الهند· ويصف فيلبي الأمير السابق عبدالعزيز بأنه شيخ طيب المعشر
عمره حوالي ستين عاما تعابير وجهه المستدق تنبعث منها الحكمة وتبعث
على الارتياح والإطمئنان· وحينما سألهم فيلبي عن الكابتين شكسبير
الذي مر بعنيزة قال الأمير عبدالعزيز إنه لم يقابله لأنه كان خارج
المدينة مع الملك عبدالعزيز في أحد غزواته وكان أناب عنه في
الأمارة صالح بن زامل الذي استشهد بعدها بعام واحد مع شكسبير في
وقعة جراب· لكن الأمير عبدالعزيز يتذكر داوتي حيث كان عمره آنذاك
عشر سنوات· كما كانوا لا زالوا يتذكرون الرحالة الفرنسي تشارلز
هيوبر·
ومن ضمن من استقبلوا فيلبي ذلك اليوم محمد السليمان الحمدان شقيق
عبدالله السليمان وزير المالية الذي دعاه لتناول القهوة وقد لاحظ
فيلبي أن أثاث منزل محمد السليمان كان أفخم بكثير من أثاث بيت
الأمير· كما تناول فيلبي القهوة عند عبدالرحمن العبدالعزيز الزامل،
حفيد الأمير زامل الذي كان عمره 25 عاما· ويقول فيلبي عن عبدالرحمن
العبدالعزيز الزامل
صحبة حفيد زامل هذا دائما تبعث السرور
والبهجة في النفس، ضيافته لا تكلف فيها وهو شخص صريح وشفاف مما
يحضر إلى ذهني تلك الصورة التي رسمها داوتي للأمير زامل وإن كنت قد
سمعت بأن أقرب الأحياء شبها في الخلقة إلى زامل إبنه محمد وحفيده
زامل الصالح·
ومن أحفاد زامل الذين التقاهم فيلبي عبدالله ومحمد أبناء علي
الزامل الذي قتل في معركة المليدا والتي قتل فيها أيضا خالد أبو
الأمير عبدالله· ومن ضمن من قابلهم فيلبي أيضا محمد وإبراهيم أبناء
الأمير زامل وقال عنهما إنهما كانا على نقيض أبيهما فيما يتعلق
بالتسامح والانفتاح·
وقابل فيلبي ابراهيم الحمد السليم وأخيه عبدالله الذين كانا في
شبابهما من ضمن قافلة السمن التي اصطحبها داوتي إلى الحجاز· وقد
سافر عبدالله في شبابه إلى كراتشي وبومبي والبحرين ومسقط· كما قابل
فيلبي علي الصالح الخنيني ومحمد الحمد الخنيني، حفيد عبدالله
الحنيني صاحب داوتي· ومر فيلبي من عند منزل عبدالله الخنيني الذي
طالما استقبل فيه داوتي لكنه وجده قد تداعى وتهدم· وذكر فيلبي أن
عائلة الخنيني اشترت بستان نخيل في البصرة اشترته منهم فيما بعد
القوات البريطانية ودفعت لهم قيمته 400.000 ريال لتقيم مكانه محطة
توليد كهربائية·
ومن ضمن من احتفوا بفلبي سليمان وعبدالعزيز الذكير وأبيهم يحي
الذكير الذي كان قد بلغ من العمر ثمانين عاما وأخيه مقبل الذي عاد
منذ فترة قصيرة من البحرين ومنطقة الخليج حيث أقام هناك لمدة 25
عاما يرعى مصالح الأسرة هناك· ويقول فيلبي عن عائلة الذكير أنهم
شرقوا وغربوا في كل أنحاء المعمورة، مثلهم مثل غيرهم من العديد من
عوائل القصيم، ومنهم حمد بن محمد الذكير الذي سبق أن قابله فيلبي
في العمارة بالعراق· ويقول فيلبي إن الملك عبدالعزيز تزوج بنت أخ
مقبل الذكير ورزق منها بنتا· أما يحي الذكير فقال فيلبي إن عمره 80
عاما وقال عنه إنه أصم كعمود الرخام، لا يسمع· قال له الدكتور
عبدالله سعيد الذي كان يرافق فيلبي مازحا: لا أستطيع علاج الصمم
الذي تعاني منه ولكن إن كنت ترغب في جرعة من المنشطات الجنسية
فعندي لك ذلك، فأجابه الشيخ يحي مبتسما: الحمد لله لم يحن الوقت
بعد لذلك ولا أحتاجها الآن· وقابل فيلبي إبراهيم القاضي، أخو الشيخ
صالح القاضي الذي كان آنذاك يفتي ويؤم صلاة الجمعة· كان إبراهيم
شيخا متقدما في السن لكنه نشيط وقوي البنية بسبب مواظبته على
ممارسة الرياضة، وله ابن عم آخر اسمه أيضا ابراهيم اشتهر بالعلم
لكنه لم يرغب في مقابلة فيلبي·
وممن استضافوا فيلبي فهد العبدالله البسام وهو شيخ كبير وبيته من
أجمل بيوت المدينة وقال لفيلبي أنه لطالما شاهد داوتي يحضر لتناول
القهوة مع أبيه في ذات المجلس الذي كان آنذاك يجلس فيه مع فيلبي·
يقول فيلبي إن فهد كان طفلا صغيرا أثناء وجود داوتي في عنيزة ولصغر
سنه كانت نساء البسام يرسلنه للتلصص لمعرفة من أي جهة من الصحن
يأكل داوتي ليتجنب النساء أكل الطعام من ذلك الجانب ليغرفونه
ويرمونه للقطط اعتقادا منهن بنجاسة النصراني· وقابل فيلبي أيضا
عبدالرحمن البسام، أخا عبدالله البسام، صديق داوتي· وقال عبدالرحمن
لفيلبي إن أخاه عبدالله دأب لعدة سنوات على جمع مواد ومعلومات
ليؤلف موسوعة لاستعماله الشخصي· ويعد محمد البسام، أخو فهد، من
أكبر التجار في دمشق·
وممن استضافوا فيلبي صالح الفضل وهو رجل شهم ومرح· وكان صالح أتى
من الرياض لما علم أن الملك عبدالعزيز سوف يتوقف في عنيزة ليرجوه
التوسط لدى الشريف حسين ليطلق أخاه وابن أخيه من الحبس في جدة،
وكان الشريف حبسهما فقط لأنهما من رعايا ابن سعود· وعائلة الفضل
لهم أملاك وتعاملات تجارية واسعة مع الهند وباكستان· وقابل فيلبي
ناصر الشبيلي وأخيه سليمان وقال إنهما تأثرا في طباعهما ولبسهما
بأهل العراق لطول إقامتهما هناك·
كما قابل شيخ يبلغ السبعين من عمره هو البناء المشهور ابراهيم بن
صالح الذي بنى معظم بيوت أثرياء عنيزة وبنى مئذنة الجامع منذ 28
سنة وتقاضى مقابل ذلك مبلغ 04 ريالا وقال إن طولها 50 ذراعا أو ما
يعادل 80 قدم· ويفتخر بأن جميع البيوت التي بناها لم تسقط ويدعي
بأنه أكثر مهارة من ابن سلوم البناء المشهور في منطقة سدير والوشم·
وفي يوم 19 سبتمبر دعى الأخوان عبدالله وعبدالرحمن البسام فيلبي
لمصاحبتهما في رحلة إلى مزرعتيهما المهيرية والرميحية اللتين تقعان
على حدود المدينة· وهناك قدما له مختلف أنواع الرطب من أنواع من
النخيل كانا قد جلباها من البصرة وهي البريمي والحساوي والبرحي
وهناك شاهد أول برحية نقلها البسام من البصرة إلى عنيزة منذ 35
سنة· كما نقل البسام من الزبير إلى عنيزة بطيخ الفريدون الحلو الذي
يتفوق في حلاوته وطعمه على الأنواع المحلية· وبعد الغداء أطلع
عبدالله البسام فيلبي على مجلد أنيق يحتوي على مشجر كامل لنسب
حمولة البسام الذين هاجروا من موطنهم الأصلي أشيقر بسبب قلاقل حدثت
هناك ليستقروا في عنيزة سنة 1173هـ، وكان أول من انتقل إلى عنيزة
هو جدهم حمد البسام·
وعن الأمراض في عنيزة ذكر فيلبي الجدري وقال إن ضحاياه بمعدل أربعة
أطفال يوميا· ومن الأطباء الشعبيين الذين قابلهم فيلبي في عنيزة
سليمان السعيد وقال إنه بالإضافة إلى الأمراض العضوية يعالج
المجانين والمختلين عقليا· وكان في بداية حياته عمل تاجرا في
البصرة وأمضى هناك عشرين سنة ولما توفي أبوه قفل راجعا إلى عنيزة
ليرث مهنة التطبب عن أبيه المتوفى دون أن يتلقى أي تدريب عدا كونها
مهنة أبيه من قبله· وقال له أنه قلما يتقاضى أجرا على عمله، والمرة
الوحيدة التي تعدى فيها أجره كلمة شكرا كانت حينما عالج مبارك
الصباح في مرضه الأخير الذي أدى إلى وفاته·
وبعد مدة وجيزة من مغادرة فيلبي عنيزة زارها أمين الريحاني· ولم
يرد ذكر لفيلبي في كتابات الريحاني لكنه يذكر داوتي كثيرا، وهذا
يحملني على الظن بأن كتاب داوتي الرائع "في صحراء العرب" هو الذي
ألهب خيال من أتى بعده من الرحالة ودفعم إلى اقتفاء أثره· يدخل
الريحاني عنيزة من جهتها الشرقية على طريق الزغيبية مرورا
بالعوشزية، والعوشزية قرية صغيرة معزولة لكنها أشبه بأن تكون هي
بوابة عنيزة الشرقية، فقد مر بها فيلبي أيضا وتكلم عنها كلاما
جميلا· يقول فيلبي إنه لما وصل مع رفاقه إلى العوشزية وجد قطيعا من
الأغنام يبلغ عددها 600 رأس تشرب من الماء أخبره الرعاة الثلاثة
أنها للملك عبدالعزيز وأنها في طريقها إلى مخيمه في بريده· يقول
فيلبي أنخنا رحالنا عند قصير منعزل هو الوحيد في القرية· ولسوء
حظنا كان صاحب القصر قد ذهب إلى عنيزة لقضاء بعض شؤونه مما دعانا
إلى اليأس من أن نتناول القهوة عنده وننال قسطا من الراحة· لكن
ظنوننا السيئة تبددت حينما أقبل علينا ابن صاحب القصر الذي لا
يتعدى عمره عشر سنوات والذي ما أن علم بأنه أنهكنا التعب حيث
أمضينا اليوم كله على الطريق حتى حيى بنا ورحب ببشاشة وشهامة كما
لو كان رجلا بالغا من خيرة الرجال ودعانا إلى الدخول إلى القهوة
التي تلفها العتمة وغطى جدرانها السواد حيث لا يوجد فيها منفذ واحد
للدخان عدا فتحة صغيرة في الجهة الأخرى من السقف البعيدة عن موقد
النار· وما أن استقر بنا المقام حتى تقاطر علينا رعاة الغنم
والعديد من شباب القرية الذين لم تتجاوز أعمارهم الخامسة عشرة
وتحلقوا حول هذا النصراني الغريب الذي نزل عليهم فجأة من حيث لا
يدرون· لكنهم كانوا في منتهى التهذيب وأمدونا بالكثير من المعلومات
المفيدة· وماء العوشزية مالح لا يستساغ لا للشرب ولا للطبخ ويجلبون
ماءهم من آبار الزغيبية التي تبعد عنهم حوالي خمسة أميال، وصادف
لحظة وجودنا نفاد الماء عندهم لذلك استعار الصبي شيئا من مائنا في
القرب ليعد لنا القهوة· وعلمنا فيما بعد أن صاحب ذلك القصر هو علي
المطرودي·
ويقول الريحاني:
العَوْسَجية قرية صغيرة حقيرة فقيرة لأن تربتها بسبب هذا القاع
جلها سبخة لا يصلح زرع أو غرس فيها· ولكن أهلها ملح الأرض· جاءنا
وجيههم يدعونا للقهوة - تفضلوا نقهويكم - فقبلنا شاكرين· جلسنا حول
الموقد على الوسائد ورب البيت يحدثنا بينما هو يعمل القهوة· ثم
أشعل السبيل ودخن وقدمه لهذلول فاداره على الربع· ثم جاءنا بخبيص
يدعونه عبيطاً يعملونه من التمر والسمن استلذذته واستعدته· فضحك
العوسجي الكريم واثنى على حريتي قائلاً: كأنكم من القصيم· جاء هذا
العربي الفاضل في المساء يرد الزيارة ويشرب القهوة فازددت إعجاباً
به وبكرم أخلاقه إذ قدم للربع شيئاً من التبغ واعتذر قائلاً: لولا
قلته والله زودناكم منه·
وكانت ضيافة العوسجي فاتحة الضيافات في الأيام التالية بعنيزة
مليكة القصيم· عنيزة حصن الحرية ومحط رحال أبناء الأمصار· عنيزة
قطب الذوق والأدب، باريس نجد· وهي أجمل من باريس إذا أشرفت عليها
من الصفرا لأن ليس في باريس نخيل وليس لباريس مِنطقَة من ذهب
النفود· بل هي أجمل من باريس حين إشرافك عليها لأنها صغيرة وديعة
خلابة بألوانها، كأنها صورة صورها كلود مانه
Claude Manet
لقصة من قصص ألف ليلة وليلة، وكأنها لؤلؤة في صحن من الذهب مطوق
باللازورد· بل قل إنها السكينة مجسدة وقد بنت لها معبداً بين
النخيل، زانته بإفريز من ذهب الرمال، وكللته بأكليل من الأثل· فهي
في مجوف من الأرض يحيط بها غاب من هذه الأشجار ليرد عنها رمال
النفود التي تهددها من الجهات الثلاث، من الشمال والغرب والجنوب·
قلت مرة لأهلها: أنتم والنفود قوم، فاعجبوا بالكلمة وتناقلوها·
إنها الحقيقة ولا مبالغة· فالنفود تحاربهم بالرمال تدفعها الرياح
من كل جانب فتسفِّيها على المدينة، وهم يحاربونها بالأثل يزرعونه
غياضاً فوق الكُثُب خارج السور·
قد تصغر عنيزة دون أهلها، وهم زهاء ثلاثين ألفاً، لأن النفود
تقيدها فلا تستطيع التبسط والامتداد· فهي لذلك مزدحمة بالسكان
وأكثر أسواقها كالسراديب لأنهم يبنون فوقها الجسور التي يسمونها
"قْبَب" وفوق الجسور البيوت· ولكن هناك سوقاً للتجارة كبيرة منيرة
تدهشك بما فيها من الأشكال والألوان· فتذكرك بأميركا وبلاد
الإنكليز، وتنقلك إلى الهند واليابان، وتسمعك اللغات الإنكليزية
والفرنسية والهندوستانية، ولهجات من العربية متعددة·
وفي عنيزة أُسر قديمة عريقة بالنسب والفضل وقد ساح آبناؤها في
البلدان القصية والأمصار شرقاً وغرباً فزادتهم السياحة لطفاً
واتضاعاً، فدفعوا الضيافة إلى مقام تنفتح عنده أبواب البيوت
والقلوب معاً· أجل، إن الغريب لينسى في هذه المدينة كونه غريباً،
فسواء أكان مسلماً أم كافراً، موحداً أم مشركاً، فهو يشعر ها هنا
أنه بين أناس الفوا مثله والفوا فوق ذلك إكرام الضيف أياً كان·
فيستأنس أيما استئناس ويلبي دعواتهم مسروراً شاكراً·
- تفضل نقهويك· هي دعوة شبيهة بدعوة الإنكليز للشاي· وفي الضيافتين
شيء غير القهوة وغير الشاي جميل، فيهما ميل إلى الحديث والتعارف،
ورغبة في الألفة والوداد· على أن ضيافة العربي العنيزي تمتاز عن
ضيافة الإنكليزي في أن رب البيت يخدمك بنفسه من حين الاستقبال إلى
حين الوداع· وما أجمل ذاك الكرم وتلك الوداعة ولا سيما أن
الفضيلتين نشأتا في عزة نفس لا تحتاج إلى الأبهة لتؤيدها·
إن قاعة الاستقبال عندهم تدعى القهوة· وهي عادة طويلة فسيحة عالية
سقفها، وقد سقف بخشب الأثل، قائم على أعمدة من الحجر مطلية بالجص،
لها نوافذ مزدوجة، النافذة فوق الأخرى، العالية للدخان يخرج منها
والواطئة للهواء، وعلى جدرانها رسوم هندسية نقشت بالجص فوق أرضية
من الطين· وفي الصدر مجوف مستطيل لا يزيد إذا كبر على الثلاثة
الأذرع هو الموقد يجلس عنده رب البيت ويجلس إلى جنبه ابنه أو أخوه
أو أحد من أهله، فينشئ الواحد يعمل القهوة والآخر يدق البن في جرن
من الحجر كبير شبيه بجرن الكبة في لبنان، إلا أن قطر ثقبه لا يزيد
كثيراً عن قطر الهاون· وعند رأس الموقد خزانتان واحدة للحطب
والأخرى للمعاميل هما قيد يد الجالس هناك فلا يضطر أن يقف ليتناول
شيئاً منهما· وأهم من كل ما ذكر الأباريق، وهي محور الدعوة وركن
الضيافة المادي، أباريق النحاس الوهاجة كأنها وصلت تلك الساعة من
المعمل في دمشق، وقد صفت أمام المضيف صفاً متناسقاً من الأول
الصغير الذي يكفي ضيفين إلى العاشر الذي يسقى مئة ضيف ويزيد· هذه
هي القهوة عندهم وهي في شكلها ورسومها ولون جدرانها· وسقفها العالي
ونورها اللطيف الذي قلما يمازجه نور الشمس، تعيد إلى ذهنك صورة
معبد من معابد الأقدمين فتحدثك بجلال العتق والقدم·
قال هنري دَوْطي في كلامه عن عبدالله البسام: "وكان لجرنه صوت شجي
كأنه جرس الضيافة يدعو الناس للقهوة".
عبدالعزيز بن عبدالله آل سليم أضافنا مرات بين الصلاتين وبعدها
أصيلاً ومساء، لا ليسمعنا حديثه، وما أحلاه، بل ليسمع حديثنا· وكنت
من باب حب الذات والاستفادة اباريه في السؤالات، فننتقل من
الجغرافية إلى الزراعة، ومن "أمريكة"، كما كان يلفظها، إلى بلاد
طي، ومن الأطباء إلى الشعراء·
هذا عبدالله بن خالد آل سليم أمير عنيزة وقد أنزلنا في القصر
الجديد الذي شُيد حديثاً لعظمة السلطان عبدالعزيز، ومد لنا في بيته
سماطاً ازدحمت فيه الألوان، وأنارته من شيم الأماجد البشاشة
والوقار· وهذا عبدالله بن محمد آل بسام له مزرعة خارج المدينة
يشتغل في رفع المياه من البئر عشرة جمال، وهو مطوي بالحجارة محكم
البناء·
أما في التساهل الديني فبين أهل عنيزة اليوم واجدادهم بون شاسع·
ليس في عنيزة اليوم من يضرب بالعصا من لا يصلي، فيسوق إلى المسجد
كالأنعام من لا يلبون دعوة المؤذن· وليس في القصيم كله من أولئك
الوهابيين، أمثال الإخوان اليوم، الذين اضطهدوا "النصراني الكافر"
هنري دَوْطي وطردوه من البلدة· لم يجد الرحالة الإنكليزي يومئذ غير
بضعة رجال والوه، وأضافوه، وساعدوه في محنته، أهمهم ثلاثة هم أمير
عنيزة يومئذ وعبدالله الخنيني وعبدالله البسّام· وقد ذكرهم دَوْطي
في كتابه بالخير· نعتهم بالفلاسفة وأثنى عليهم ثناء طيباً·
حدثني صديقه عبدالله قال: كنت شاباً يوم جاءَ "خليل" إلى عنيزة
وكان الخنيني أكبر أصدقائه ومساعديه· فاغضب سكان المدينة فسبوه
وتجنبوه· قالوا إنه كافر مثل الإنكليزي وها قد مر خمس وأربعون سنة
وأنا أشاهد التطور عندنا· نعم الفرق كبير· ثلاثة يومئذ والوا
الغريب علناً وأكرموه، ثلاثة فقط· أما اليوم فلو عاد "خليل" إلينا
لما وجد ثلاثة يسيئون إليه فعلاً أو قولاً· أهل عنيزة اليوم يغضبون
لأقل إساءة تلحق بالغريب في بلدهم·
هذه مقتطفات يسيرة مما ذكره الرحالة الأجانب عن مدينة عنيزة وأهلها
راعيت فيها الاختصار والاقتصاد حتى لا ينطبق علي المثل القائل: قال
من مداحته قال امه ومشاطته· وقد مر على عنيزة رحالة كُثُر منهم من
مر بها مرور الكرام مثل الرحالة الفرنسي تشارلز هيوبر والرحالة
الألماني جوليوس يوتنغ والإنجليزي شكسبير، ومنهم من أطال الإقامة
فيها وأسهب في الحديث عنها مثل أولئك الذين تحدثنا عنهم· لكن
الرحالة الذي خلدها هو تشارلز داوتي الذي كتب عنها أربعة فصول تقع
في حوالي مئتي صفحة مليئة بالتفاصيل والمعلومات عن الحياة
الاجتماعية والاقتصادية والسياسية تسجل لأول مرة وتكاد تكون هي
الوثيقة الوحيدة التي لدينا عن عنيزة من تلك الفترة وبكل هذه
التفاصيل· والأهم من ذلك أن داوتي سجل اسم عنيزة في التاريخ كحاضرة
للتسامح الديني والاجتماعي في نجد، وتبعه في ذلك كل من جاؤوا بعده·
ونتمّى على أهل عنيزة أن يحافظوا على ميزة الكرم والتسامح
والانفتاح التي حققت لمدينتهم سمعة عالمية وأن يكونوا سباقين إلي
تأصيل هذه المثل في المجتمع السعودي وربما يكون من الجدير بهم أن
يؤسسوا في مدينتهم جمعية لهذا الغرض تكون مربوطة بالنشاطات
الثقافية والسياحية، كما قد يكون من باب رد الجميل لو سموا أحد
الشوارع الصغيرة أو أحد صالات مركز ابن صالح الثقافي باسم داوتي·
والآن اسمحوا لي أن أنهي هذه المحاضرة بمقتطفات من جزء من كتاب
داوتي أظن أنه أكثر الأجزاء إثارة ومتعة هو الجزء الذي يصف فيه
رحلة قافلة السمن من عنيزة إلى الحجاز وما لاقوه في تلك
الرحلة من مخاطر الطريق ومشاق السفر·
داوتي يصطحب قافلة السمن المتجهة من عنيزة إلى الحجاز
يكرس داوتي الفصل السادس عشر في الجزء الثاني من كتابه للحديث عن
قافلة السمن التي يصطحبها من عنيزة إلى الحجاز، لكنه أورد في نهاية
الفصل الخامس عشر نبذا تمهد لما سيأتي، مثل قوله إن عنيزة وحلفاءها
من مطير كانوا في حالة حرب مع قبيلة قحطان لكن الأمير زامل أجل
المواجهة معهم حتى قدوم القافلة القادمة من الشمال، كما أجل مغادرة
قافلة السمن إلى مكة إلى ما بعد المعركة· وبعد ذلك يقول داوتي في
الفصل نفسه· "والآن بدأ الجماميل في عنيزة يستظهرون عدتهم
ويهيؤونها، حيث أن قافلة السمن المتجهة إلى مكة سوف تنطلق قريبا·
فقد أحضروا الزمل، وهي الإبل المعدة لحمل الأثقال، من مراتعها في
البادية وأصبحنا نشاهدها كل يوم وهي تروم في مراعي النفود المحيطة
بالبلد· وكان قد غادر في تلك الأيام قافلة تحمل التمر والحنطة إلى
المدينة"·
ويتحدث داوتي عن توقف قافلة السمن خارج مدينة عنيزة ومجيء حمد
اليحي إلى هناك ليودع داوتي وكان حمد هذا ممن حضروا موقعة دخنة بين
عنيزة ومطير من جهة وقحطان من جهة أخرى على فرسه· يقول داوتي:
جاءني راكبا على فرسه يقود فلوا صغيرا قال لي إنه وجده مربوطا في
أحد بيوت قحطان فجاء به معه وقال لي، ليبرر فعلته، "والا كان مات·"
ويجري الفلو ويلعب وراء الفرس التي لا حليب فيها، كما لو كانت أمه
الحنون· وتبنّت الفرس ذلك الفلو الغريب وتدير عنقها نحوه لترنو
إليه وتنخر له بعطف شديد·
تعشينا سوية وحدثني حمد عن لقائهم مع قحطان· قال بأنه ركب فرسه
متسلحا ببندقيته "أم بطنين" لكنه اشتكى لي أنه كان من الصعب إعادة
تذخير البارود من على ظهر الفرس· قلت سبب ذلك أنكم تركبون الخيول
معرّاة ظهورها ما عدا المعرقه ولو استخدمتم الركاب لسهل عليكم ذلك·
ووافقني على صواب رأيي· قال بأن غبار المعركة كان من الكثافة بحيث
حجب الرؤية فلم يتمكن من تقدير عدد بيوت القحطانين لكنها ربما بلغت
في رأيه 300 بيت· وعادة ما تذهب القافلة إلى مكة عن طريق دخنة
لكنهم هذه السنة سوف يتحاشون ذلك الطريق بسبب روائح الجثث المتعفنة
من القحطانيين· وسألته إذا كانت القافلة ستسير طوال النهار الحار
فأجاب "لا، والا كان الشمس تموّع السمن ويخر من العكك·" وقال إن
القافلة سوف تضطر للسير ليلا خوفا من قحطان وأن قافلتنا سوف تلتقي
عند الرس مع القافلة القادمة من بريدة· وجلس يتحدث معي لمدة ساعة
في ضوء القمر· وعبّر لي حمد عن أسفه أن ينهي صداقتنا هذا الفراق
السريع· وقال يمكننا أن نتراسل فيما بعد· ثم ركب وقال لي إنه سوف
يعود في يوم الرحيل إلى مكان تجمع القافلة ليودعني الوداع الأخير·
لكنني لم أره بعد ذلك·
وينتهي الفصل الخامس عشر ويعقبه السادس عشر الذي يقول:
كان الليل قد أظلم حينما وصلنا إلى محط القافلة، حيث حيا سليمان
الخنيني الجماميل الذين كانوا قد سبقونا إلى المكان برفقة أحمالهم·
قادنا هؤلاء إلى المكان المخصص لنا في المخيم، حيث أن كل خبرة لها
منزل تحط فيه وتنيخ إبلها أمامه· ها هي القهوة على النار في المكان
المعد لنا ورأيت عكك السمن التي تؤول إلى سليمان (وكان عددها أربعا
وعشرين أو ما يعادل طنا تقريبا) ملقاة على الأرض بانتظام: أربع من
هذه العكك، التي تعادل الواحدة منها خمسة عشر صاعا (من أصواع
القصيم)، تساوي حمل بعير، وقيمتها ثلاثون ريالا، ويأملون بالحصول
على ستين في مكة· وقد مر بالمخيم البارحة جمع من أهالي عنيزة
يودعون أصدقاءهم وإخوانهم المغادرين· هذا المكان الذي تتجمع فيه
القافلة التي تقصد مكة يقع وسط النخيل التي خارج البلد واسمه
الوهلان·
أوصى عبدالله الخنيني (قريبه) سليمان أن يهتم بأمري وكذلك ابن بسام
ذلك الشخص الطيب أوصى بي إبنه عبدالرحمن وأكدا عليهما قبل الوصول
إلى المحطة الأخيرة قبل مكة (سواء في وادي الليمون أو السيل) أن
يبحثا عن "آدمي" يوصلني إلى جدة قبل الدخول في حدود الأماكن
المقدسة· ولم يسبق للخنيني طاهر القلب أن حج من قبل، ولا يعرف
الطريق ولم يخطر على باله الخالي ما سوف أتعرض له من مخاطر في
نهاية هذه الرحلة·
كان معنا في قافلة السمن 170 بعيرا -تحمل حوالي 30 طنا من السمن-
ويصحبها سبعون رجلا منهم أربعون يعتلون مطاياهم، والبقية رعاة
وجمالون· كنا متقسمين إلى خبر صغيرة، كل سيّد مع حاشيته وخدمه·
وتحمل كل خبرة خيمة أو ظلة يظللون بها على رؤوسهم إذا حطوا الرحال
ظهرا، ولتظلل السمن -الذي يذوب في العكك (وتسمى الواحدة منها جرم
والجمع جروم) مع حرارة الشمس؛ لا بد أن تطلى الجروم من الداخل
بطبقة سميكة من الدبس· هذا السمن الذي يساوي أكثر من 2000 جنيه
إسترليني في أسواق مكة يجمعه تجار عنيزة أثناء الربيع عن طريق
المتاجرة مع البدو، ويحفظونه خلال هذه المدة في أحواض من الرخام·
وهناك أمير يعينه زامل على هذه القافلة الكبيرة، وهو من عائلة
الأمير ويستلم ريالا عن كل بعير من إبل القافلة· وقد حصل الخنيني
على خطاب من زامل يوصي فيه أمير القافلة أن يتعهدني بالرعاية ويحرص
على سلامتي إذا تركت القافلة في محطة العين· جلسنا حول موقد النار
نتحدث حتى أخذ منا التعب ثم استلقينا لننام هناك، على رمل النفود·
استيقظنا مع الفجر وكان لا يزال لدينا بعض الوقت لتناول القهوة·
وكان الأمير وبعض تجار عنيزة الذين يقطنون مكة وينوون العودة إليها
مع القافلة أمضوا الليل داخل المدينة، وسوف يلحقون بنا على نجائبهم
العمانية· والعمانية التي تباع بستين أو سبعين ريالا في عنيزة لا
تقل قيمتها عن 051 ريالا في موسم الحج في أسواق مكة حيث الطلب
عليها كبيرا)· ولما طلعت الشمس حمّلت القافلة وانطلقت· وبعد قليل
وصلنا وادي الرمة حيث سرنا لمدة ساعتين قبل الظهر ثم نزلنا في شعيب
الشبيبية· سليمان الخنيني جمال يمتلك الزمل، أما أحمال السمن الستة
التي معه فإن قريبه عبدالله يشاركه فيها·
ربما كانت الساعة الثالثة قبل أن تتحرك القافلة وكانت الشمس
المحرقة قد انحرفت باتجاه الغرب· وأعطى خادم الأمير الإشارة
بالتحرك بأن صاح بأعلى صوته "الشيل"· وفي الحال تقوض المظلات ويؤتى
بالجمال وتبرك للتحميل ويسارع الجمالون إلى تحميل العكك الثقيلة
على ظهور الإبل قبل رحيل القافلة، وهذا عمل شاق يفوق طاقتهم، وبدأ
ركّاب النجائب بالتحرك ومن ليس على أهبة الاستعداد سوف يفوته
الركب· ويقف خادم الأمير أمام القافلة مثل الراعي يمد ذراعيه ليمنع
المتقدمين من المسير حتى يلحق بهم مَن خلفهم، أو يجري هنا وهناك
رافعا صوته على من يخالف أوامره· ويبدأون المسير ولخوفهم من مجاهل
الصحراء يتحركون مجتمعين·
وكان مع سليمان ثلاثة من الجماميل أحدهم، وهو شخص معدم من أهالي
عنيزة، كان طباخ الخبرة، والآخر بدويا· وبعد ساعة وضعوا أمامنا
العشاء (طبق حار من القمح المطبوخ)· وبعد الأكل ارتشفنا القهوة،
وجلسوا يتحدثون لبعض الوقت ويدخنون، ثم التحف كل منا عباءته ونمنا
على الرمل، لنغفو فيما تبقى من ساعات قليلة قبل طلوع الشمس·
قبل الفجر بساعة سمعنا الصيحة "الشيل"، ونهض القوم مسرعين وحرث
الحراس نيرانهم الخامدة ونفخوا على الجمر ليرتفع لهبا، ورموا على
النار مزيدا من أعواد الحطب لتحترق وتضيء لنا المكان· ولا تسمع إلا
الرجال بأصواتهم الجشة وهم يجهّزون للرحيل· ويزدحم المكان بالإبل
التي لا تسمع إلا رغائها وتدافعها· ولن تمر دقيقتان أو ثلاث إلا
والجميع على أهبة الاستعداد· الراكبون يعتلون مطاياهم والمشاة
يلبثون يتفحصون المكان في ضوء الشفق الباهت للتأكد من أنهم لم
يتركوا شيئا خلفهم· يتحرك الجمع وتبدأ مسيرة يوم جديدة تستمر أثناء
حرارة النهار الطويل حتى المساء· وبعد رحلة ثلاث ساعات في صحراء
منبسطة وصلنا الرس الذي لم يتردد أهله منذ جيلين في قطع نخيلهم
ليعملوا منها متاريس وصدوا ببسالة هجمات جيوش ابراهيم باشا· أرسل
الأمير ذلولا إلى البلد ليستطلع الأخبار وعاد النجاب ليخبره بأن
قافلة السمن التي تنطلق من الرس قد غادرت من قبل مع قافلة بريدة
التي مرت بهم منذ يومين·
أحضر لي هذا اليوم أحد عملاء ابن بسام الخطاب الموجه من زامل إلى
ابراهيم، أمير القافلة الشاب، بخصوصي· ورث ابراهيم هذا مهنته من
أبيه -الذي كان حتى عهد قريب أمير قافلة مدينة عنيزة- وهو ابن اخت
لزامل، إنه شاب في العشرين تبدو عليه أمارات الرجولة والنخوة· وقد
دعاني مرة لتناول العشاء معه حينما ننزل في المساء· وشباب التجار
العائدين إلى مكة حيث دكاكينهم هناك وبعضا من رؤساء الخبر يمتطي كل
منهم ذلوله ويدفعها ليسير في ركب إبراهيم يتقدمون القافلة في
مسيرتها، وبين الفينة والفينة يتوقفون ويوقدون نارا من الأعواد
التي يجمعونها لعمل القهوة· وقد وجدت الركوب في مؤخرة القافلة حيث
السير بطيء أريح لي·
إنها صبيحة اليوم الخامس ونحن ما زلنا نغذ السير في هذه البلاد
المرتفعة، المليئة بالجبال، ومعظمها من حجر الغرانيت، وأغلبها ذات
أشكال غريبة، حيث أن صخور الغرانيت تنفرش على شكل صفائح بل أحيانا
على شكل قبب مستديرة وعلى شكل حراشف· ومن علامات الطريق جبل بازلتي
فيه شرخ عجيب يسمونه "درب الذيب"· وقبل الظهر وقعنا على آثار غزو
عظيم، وهو، كما يذكرون، ذلك الغزو الذي شنه مؤخرا ابن رشيد ضد
عتيبة· وقبل الظهر سمعنا صوت النذير وتوقفت القافلة، يعتقد البعض
أنهم طالعوا بدوا· هب الجميع إلى أسلحتهم، ومعظمهم أطلق النار في
الهواء ليفرغوا بنادقهم ويعمّروها بالذخيرة من جديد· أما الجماميل
المرهقين من السير على أقدامهم فقد بدأو يقفزون ويرقصون ملوحين
برماحهم في الهواء· واقترب الركبان بعضهم من بعض وصارت القافلة
تسير مجتمعة وبانتظام· وسليمان الذي كان أول من استخرج بندقيته من
خبائها، ركب واضعا بندقيته التي يشتعل فتيلها في حضنه، وكان يزمجر
ويصر أسنانه من الغضب· وكانت هذه سيرة الباقين، واشتد حماس أهل
القافلة الذين يطلبون من الله أن يمكنهم من إبادة أعدائهم
اللدودين، ذئاب الصحراء البشرية· وأرسل ابراهيم نفرا يعسون خبر
الأعداء المتربصين، لكنهم عادوا بعد قليل ليؤكدوا أنه تبين لهم أن
ما رأوه كان مجرد أشجار صحراوية· بعدها صاح خادم الأمير مناديا
بمواصلة المسير·
وفي كل منزل ننزل فيه أرى مذكر في خيمة إبراهيم، فهو ينزل مع
الأمير· هذا الشيخ البدوي رفق ودليله رافقنا ليدلنا الطريق أثناء
عبورنا ديار عتيبة ويحمي القافلة في أي مواجهة تتعرض لها مع قبيلته
عتيبة· كان هو ورفاقه الإثنين أو الثلاثة بمثابة العيون لنا في
القافلة·
في المضحّى تترك الإبل لترعى، وتروم هذه البهائم المنهكة في
الصحراء لكن أفواهها التي جفت من شدة الظمأ لا تستطيع أن تمضغ إلا
ما تقتطفه خلال سيرها السريع في الصباح الباكر حيث لا يزال تأثير
برودة الليل على الأرض· تنوء هذه البهائم الضخمة بأحمالها وتعرق
وتكاد تمتنع لشدة عطشها عن الأكل حتى نهاية اليوم السابع عشر،
حينما تحط عنها أحمالها في مكة· وقال لي جماميلنا الأقوياء بتأوه
(من عادة العرب كلهم التشكي بشيء من اللامبالاة من متاعب العيش في
هذه الحياة) أن عملهم في الرحلة متعب جدا· يركب أحدهم في الصباح
واثنان يمشيان وبعد الظهر أحدهم يمشي واثنان يركبان· ومسير قافلة
القصيم لا يشبه مسير قافلة حجاج الشام التي تتحرك ببطء، فهم يحثون
ركائبهم في حمارة القيظ من مورد لآخر· والموارد بعيدة بعضها عن
بعض، ولا بد من الوصول إلى المورد التالي قبل اليوم الرابع من
مغادرة المورد الأخير وإلا سقطت الإبل من الإعياء·
وبعد ثلاثة أيام بدأ ينفد صبر رجال القافلة وصاروا يزجرون مطاياهم
بأصوات مشحونة تصدر من رجال على حافة اليأس· يحثون قلائصهم لتغذ
سيرها ويلكشونها برؤوس رماحهم· ينهرونها ويندبونها ويدعون عليها
بالويل والثبور "يامل الطير"، "يامل الذبح"· ولو تلكأت لحظة لتقطف
غصنا صاحوا بها "يامل الجوع"، "حِيّ لا بارك الله بك"· ويجب على
الجمّال ألا يصرف نظره عن حمل بعيره لأنه من عادة البعير إذا جاء
منطقة رملية أن يبرك ويتمرغ فيها ليسكن الحكة التي نهرش جلده، ولو
حدث ذلك تحطم الحمل· ومع مرور كل يوم تزداد طباع أهل القافلة شراسة
ويقل كلامهم ولا يتكلمون إلا بشق الأنفس· أما الجمالون اللذين
يحسون مرارة العطش في حلوقهم فإنهم لا يتلفظون إلا نزرا وبعبارات
نابية، مثل "أنا ولد ابوي"، "أنا اخوك ياختي"·
وفي مضحّانا بلغت درجة الحرارة 102 فهرنهايت في الظل، وقدمنا موعد
تحركنا واستعجلنا لندرك الماء الذي وصلناه قبل الغروب بساعتين· هذه
عفيف، مورد قديم عمقه عشرة أبواع وهو مطوي بالحجارة البازلتية
الخشنة· وأسرع سليمان مع بقية أعيان القافلة وتقدموا إلى الماء
بعدتهم، كل منهم يحاول أن يسبق الآخر إلى فوهة البئر ليحجز مكانا
للرِّي· ولما وصلناهم وجدناهم واقفين كل معه عدة السقي التي تتألف
من عمود خشبي سميك يغرس في الأرض ويثبت بالحجارة وتثبت المحالة في
رأسه المشقور، كتلك التي يستخدمها البدو في قلبانهم العميقة، وبدون
هذه الطريقة لا يستطيعون جذب الماء· ويجذب الرشاء رجلان يسيران إلى
الخلف ويقف الثالث على حافة البئر ليستلم الدلو المملوء إذا ارتفع
ويفرغه في حوض الإبل، والذي هو عبارة عن قطعة من الجلد أو السجاد
تفرش على حفرة كانوا قد حفروها بالحصا والعصي وأيديهم العارية في
الأرض الصلبة المغطاة بالزلط· وسقيا هذا العدد الضخم من الإبل على
بئر واحد يتطلب جهدا كبيرا من الرجال الذين يعملون بأقصى طاقتهم
ولا تسمع إلا أهازيجهم التي يرددونها بصوت واحد مثل البدو·
تسلك القوافل التي تنطلق من القصيم إلى مكة طريقان؛ الدرب الغربي
وموارده عديدة ومتقاربة، وهذا هو الطريق الذي سلكته من قبلنا قافلة
بريدة والرس، ويسمى الدرب السلطاني· والدرب الأوسط الذي نحن عليه
وتسلكه القوافل المسرعة وموارده متباعدة ومن يسلكه يسلم من
الاحتكاك بالبدو لأنهم لا يقطنون على موارده في القيظ· ولا يجرؤ
أصحاب القوافل على السقيا من الموارد التي يقطن عليها البدو الذين
لا يؤمن جانبهم· في مثل هذه الحالة يأمر أهل القافلة البدو
بالرحيل، فينصاعون لأوامر الحضر على مضض· أما إذا كان البدو
القاطنين كثيرون ولا يستطيع الحضر ترحيلهم فإنهم يتناوبون معهم على
الماء ويسقون بسرعة وأسلحتهم بأيديهم ثم يسوقون الإبل التي لم تأخذ
كفايتها من الماء إلى المورد التالي· ومعظم الموارد في هذه الصحراء
ماؤها مالح·
عفيف التي توقفنا فيها لنستريح أرض منخفضة تحيط بها الجبال
البازلتية· ورأيت الأحجار البازلتية الخشنة على فوهة هذا البئر
تغطيها قشور الكلس الأبيض وأحدثت فيها حبال البدو اللينة شقوقا
غائرة· وتنمو هنا بكثرة أعشاب الضرم الطويلة المعترشة التي سبق لي
رؤيتها على طريق الحج الشامي· وسيقت إبلنا التي لم تطعم شيئا إلى
المرعى· واعتلى رفاقنا أصحاب مذكر من قبيلة عتيبة المرقب، وهو جبل
بازلتي بالقرب منا، للمراقبة· وكانت حرارة الشمس شديدة على رؤوس
رعاة الإبل، لأن حرارة الشمس التي يمكن للمسافر أن يتحملها وهو
يتحرك في الهواء لا تطاق حتى بالنسبة للبدوي في حالة التوقف·
واشتكى لي أحد "الملاحيق" من أشعة الشمس التي صار يغلي منها دماغه·
وقبيل المساء رأينا إشارة الخطر تصدر من رفاقنا في المرقب! وأُحضرت
الإبل بسرعة· لقد شاهد الرقباء زول يعتقدون أنه بدوي· ولكن تبين
لهم بعد قليل أنهم أربعة "أزوال" راكبين حميرهم·
إذا وصل أمير القافلة إلى المنزل الذي يريد أن يتوقف فيه شد خطام
ناقته وخبطها بعصاه على الرقبة وصوّت لها لتنيخ· وتبدأ البهيمة
المتعبة ترغي وتثني ركبتيها وتدور حول نفسها كما يفعل الكلب إذا هم
بالربوض· ويتبع أعيان القافلة أميرهم وينزلون معه ويحرصون على أن
يتخذ منزلهم شكلا دائريا، ثم يسوقون الإبل إلى حيث تبرك وينزلون
أحمالها·
قبيل الظهر وقعنا على آثار أدباش لبدو قادمين من جهة الحرة إلى حيث
توجد آبار جيدة للسقيا في طريقنا· وفي المضحّى كان قد نال منا
العطش، ولم نذق من الماء إلا تلك الجرعات المرة من ماء شرمة العكر
ولن نصل الماء إلا بعد حلول المساء أو صباح الغد· وجدت درجة
الحرارة في الظل 107 درجة فهرنهايت وبدأ يهب علينا السموم· وفي
المقيل لا يتناول أصحاب القافلة إلا التمر وما تبقى من عشاء
البارحة من الرز أو الثريد· ويأكل الأعيان والرعيان من قصعة واحدة
ولكنهم اليوم لم يستطيعوا أكل شيء من شدة العطش· ذهبت إلى خيمة
إبراهيم وابن بسام -كل منهم يحمل عشر قرب من الماء- لأطلب فنجانا
من القهوة أو من الماء· وأعطاني رجالهم رشفة من الماء لا غير· لأن
هذه طريقة العرب في السفر·
بعدما تركنا خلفنا جبال الاكموم وهكران تنبهت إلى حركة في مؤخرة
القافلة ورأيت البعض على ركائبهم يتقدمون القافلة بسرعة خاطفة·
ساروا مسرعين يبحثون عن بعض الثمائل التي لا تبعد كثيرا عن الطريق·
ولما وصلوها قفز كل منهم في حفرة الماء ليملأ قربته، ووقف في الماء
الوحل الذي غمره حتى منتصف قامته· وسارع كل من الناس العطشى إلى
الماء وشرب ملئ إنائه، ولم يتنبهوا إلا بعد ذلك إلى أن الماء لم
يكن نظيفا·
وفي الليل أرسل إبراهيم بعض الركبان ليجسوا لنا الماء أمامنا،
والذي كنا نأمل بوصوله أمس، ويخبرونا إن كان البدو يقطنون عليه·
طلعت علينا الشمس ونحن ما زلنا نستريح في هذا المكان الجميل· وبعد
طلوع الشمس بنصف ساعة رأينا روادنا يعودون حاملين معهم الأخبار
بأنهم لم يلقوا إلا بدوا قليلين على الماء من عتيبة وأنهم تحدثوا
مع واحد منهم وجدوه في الصحراء فدعاهم ليسقيهم من حليب نياقه·
بقينا في مكاننا ونصبنا خيامنا· ونحروا فاطرا وزعوها على الخبر
التي اشترت من لحمها· وقد استاقوا مع القافلة ثلاثا أو أربعا من
هذه الجزر، وبهذه الطريقة يتذوق رجال القافلة المتعبون اللحم كل
بضعة أيام·
انطلقت القافلة ظهرا وامتدت أمامنا السبخة المستوية التي تصل إلى
سيف الحرة وإلى اليسار منا يمتد أفق الصحراء· ومررنا ما بين جبل
هكران المنخفض وأطراف الحرة· ومع غروب الشمس دخلت القافلة جانبا
مجوفا على حافة الحرة صخوره البركانية ثقيلة وبازلتية· هنا مورد من
عدة أبيار، المويه، أو مويه الشعيب، أو أمواه هكران، وهو مورد
رئيسي من موارد العرب·
وجدنا البدو كانوا قد غادروا المكان ومع ذلك فإننا نزلنا وقت الغسق
قبل الوصول إلى الماء بمسافة ليست بالبعيدة، لأن المكان في هذه
الأشهر يمتلئ باللصوص· وأرسلت كل خبرة رجلا إلى الآبار ليملأ قربهم
من مائها ليشربوا· رتب أصحاب القافلة منزلهم على شكل دائرة ملمومة
خوفا من مفاجآت الصحراء· وأشعلت النيران للطبخ وعمل القهوة· كانت
الليالي مظلمة فاستعدوا للحراسة· يظل في كل خبرة شخصا متيقظا
للحراسة، ويتناوب الحراسة ثلاثة أشخاص حتى مطلع الفجر· وذكر لي
سليمان أنهم في قوافل الحج السنوية التي تحمل البضائع الكثيرة
والفضة يقومون بالحراسة الليلية طوال هذا الطريق الصحراوي الطويل·
في الصباح الباكر ساق القصمان إبلهم إلى المورد ليسقوها حاملين
أسلحتهم بأيديهم وكان عملهم سريعا نظرا لكثرة الآبار· وغادرت
القافلة بعد طلوع الشمس بساعتين، وكان هذا اليوم الثالث عشر من
مغادرتنا عنيزة· ولم نقابل أحدا من البشر منذ تركنا القصيم، ولكننا
الآن نرى قليلا من البدو يقودون إبلهم إلى الماء ليسقوها· ولم
يتغير منظر السهوب من حولنا، تتناثر قمم من صخور المرو، أكوام من
البياض اللامع نراها في هذه الأرض· مررنا بدار، أو منزل قديم مهجور
من منازل البدو، وآبار ماءها مالح· الجال المرتفع من حرة كشب يتجه
معنا دائما حيثما نسير، وشاهدت فيه عبر الصحراء أشجار الأكاشيا
الخضراء وتلال عالية من الرمال المتحركة أراها عبر الصحراء· وبدت
لنا التلال البركانية التي لا نكاد نراها في ضوء الشمس التي لفها
النشاص (هذه اللابات العظيمة غمرت الصخور البلوتونية، على خلاف
حرات خيبر والعويرض التي يغطيها الحجر الرملي)· ولا تزال السبخات
تمتد بين طريق القافلة والحرة· هذا هو ما نشاهده من تضاريس بشعة
المنظر في الطريق من نجد إلى مكة· يبلغ ارتفاع هذه القفار حوالي
4200 قدم·
توقفنا في الظهيرة واستعجلنا في نصب الخيام لتقينا حرارة الشمس·
واتجه نحونا قادم من الخلاء بدوي راكب ذلوله· أخبرنا هذا الرجل
الودود من عتيبة أن قافلة بريدة على ماء مران، هناك أسفل من الحرة·
وعصف علينا هبوب السموم من الغرب أثناء سيرنا بعد الظهر· وأنخنا
للمبيت مع غروب الشمس· إلا أن بعض رجال القافلة، لما سمعوا أن هناك
آبارا غير بعيدة منا، ركبوا ليملأوا القرب بالماء، لكنهم عادوا
بدون ماء لأنهم وجدوه، كما قالوا لنا، مالحا وطعمه كبريتي·
أثناء مسيرنا في المساء رأينا قطعان البدو من الأغنام يرعاها أطفال
عراة· كان أولئك البدو الصغار نحيلي الأجسام وبشرتهم بنية بلون
الجوز من لهيب الشمس المحرقة· شاهدنا إبلهم أمامنا واقترب منا
الرعاة ليسألونا عن الأخبار· وجاءنا خيال راكبا فرسه العاري من
السرج ودفعه بجرأة في وسطنا· وأصبحنا نرى بيوتهم السود· هؤلاء هم
عرب الشيابين من عتيبة· كانت الشمس تنحدر نحو المغيب وابتعدنا
قليلا عن قطين البدو ونزلنا· وجاءنا بعض نساء البدو يسألن أهل
القافلة إذا ما كان لديهم قماش للبيع· لكن القصمان قالوا لي إن
قصدهن التجسس على مخيمنا وإذا ما كان هناك شيء يمكن سرقته بالليل·
لاحظت عيونهن حادة البصر بشرتي البيضاء وسألن "من هذا؟ من هذا
الغريب بينكم؟"
وفي الغد واصلنا مسيرتنا وسط قطعان البدو، وكلها هنا وبرها أبيض·
في هذه الصحراء المدارية رأيت بعض النباتات المنعزلة من صبار
المفصليات المزهرة "الغلاثي" الذي يستخدمونه لعلاج الإبل، يدهن به
البدو أنوف إبلهم المريضة· والأرض خليط من الرمل والزلط البلوري·
وقبل الظهر بساعتين وصلنا إلى عرق آخر من عروق اللابة البازلتية
وصادفنا إبلا لهؤلاء الشيابين صادرة من مورد الشعراء وكانت تبرك
غير بعيد منا· هذه الإبل العتيبية لونها بني وقليل منها لونها يميل
إلى السواد وكلها صغيرة الحجم· كان الرعاة شباب جريئون ويتكلمون
بطلاقة· وحينما مررت راكبا أمام بيت منعزل رأيت داخله امرأة مع
ابنها فسلمت عليها وردت علي بطلاقة "مرحبا، مرحبا"· حينما اقتربنا
من منازل البدو بادر رفاقنا في القافلة، كعادتهم في الحذر من
البدو، باستخراج بنادقهم الطويلة من أخبيتها وأشعلوا الفتائل وظلوا
ركبين وبنادقهم على رُكبهم·
وقابلنا شاب بدوي رشيق جاء ليسقي إبله وكم كان وسيما وجه ذلك الشاب
وهو يرتدي رداءه المكي الأزرق، وهذا اللون في نظر أهل الشمال لا
يلبسه إلا النساء· وتساقطت ظفائره الحالكة السواد متناثرة على
أكتافه· وصاح راعي إبلنا العنزي، الذي بحكم أنه بدوي يكره كل البدو
الذين لا ينتمون لقبيلته، "هيه ياولد، أقول يالربع، أبك هذا رجّال
والا مَرَه؟" وكاد الشاب المسكين أن يتميز غيظا ونظر إلينا شزرا
بعينيه الجميلتين وكاد أن ينفجر بالبكاء·
أمضى أصحاب القافلة ليلتهم هذه متسلحين· وكانت إغفاءتنا تقطعها
صيحات التحذير وطلقات البنادق التي لم تتوقف حتى الصباح وأمضينا
الليل ونحن عرضة للخطر من هذه الطلقات التي تصدر من مخيمنا·
والبدوي الذي يقبضون عليه وهو يتلصص يحضرونه إلى خيمة الأمير،
وقالوا لي إن عقوبته الضرب حتى الموت· ولا يكاد يفوت يوم دون أن
يُفْقَد شيء من القافلة، ومن المحتمل أنه تُرك على الأرض أثناء
ركوبنا في الظلام قبل انبلاج الصبح· وإذا وصلنا منزلنا التالي قام
صاحب الحاجة المفقودة يصيح بين يديه المضمومتين إلى فمه يعلن عن
فقدانه هذا الشيء أو ذاك ويطلب من أي شخص عثر عليه أن يخاف الله
ويعيده·
جاء إلينا بعض البدو في الصباح وحالما رأوني سألوا بإلحاح من أكون،
وسألهم أصحاب القافلة عن أسعار السمن في مكة· وحينما غادرنا، بعد
أن أسقينا الإبل مرة أخرى، جاء بدوي واندس في القافلة، وكانت
ملابسه رثة مثل غيره من البدو ولكنه كان وسيما مقارنة بالحالة
المزرية لهؤلاء الحضر الكادحين· لكن راعي إبلنا العنزي بلسانه
السليط لعن أباه الذي خلّفه وأمره أن يبتعد عنا! لكن العتيبي استل
طرف سيفه من غمده وابتسم ابتسامة البدو المهذبة، فهو لا يخاف من
الحضر وسط ديرته· |