الصفحة الرئيسية | السيرة الذاتية مراجعات أعمال د. الصويان الأعمال المنشورة | الصحراء العربية: شعرها وثقافتها | أساطير ومرويات شفهية من الجزيرة العربية
 الثقافة التقليدية مقالات صحفية في الأدب الشفهي مقالات صحفية بالعربية محاضرات عامة معرض صور تسجيلات صوتية موسيقى تقليدية
ديواني
| كتب في الموروث الشعبي مخطوطات الشعر النبطي أعمال قيد النشر لقاء تلفزيوني مع محطة العربية مواقع ذات علاقة العنوان

Home | Curriculum Vita | Reviews | Publications | Arabian Desert Poetry | Legends & Oral Narratives  
Traditional Culture
|
Articles on Oral Literature | Articles in SaudiDebate | Public Lectures |  Photo Gallery | Sound Recordings
Traditional Music
| Anthology | Folklore Books | Manuscripts | Work in Progress | TV Interview | Relevent Links | Contact

 

تداخل التاريخي والأسطوري
في المرويات الشفهية

أحداث التاريخ والأنساب ومختلف المعارف والمعلومات في المجتمع الأمي يتم تداولها شفهيا، لذا لا بد من صقلها وصياغتها بلغة أدبية وأسلوب فني حتى يسهل حفظها ويتعطش الناس لسماعها ولا يملون من تداولها وتكرارها كي لا تنمحي من الذاكرة الجماعية. القاص الشفهي في سرده للأحداث دائما يتنازعه عاملان؛ فهو من ناحية يحكي وقائع تاريخية، ولكنه من الناحية الأخرى، كي يستحوذ على انتباه الجمهور وكي يضمن بقاء الأحداث ماثلة في ذاكرة المجتمع الأمي، يضطر إلى سرد الأحداث بأسلوب فني مثير وممتع. في المجتمع الشفهي لا بد أن يصاغ التاريخ بأسلوب جذاب يشد الانتباه ويضمن تلهف الناس وتعطشهم إلى سماعه مرات ومرات وإلا امّحى وتلاشى من الذاكرة.

انتشار السالفة واستمرار تداولها وبقائها في مجتمع أمي شفهي مرهون برغبة الرواة في حفظها وتردادها واستمرار طلب الناس لها وتشوقهم لسماعها. وهذا ينطبق أيضا على القصائد ولهذا نجد بعض الشعراء يقوم بما يشبه الحملة الدعائية لقصيدته في المطلع الاستهلالي المخصص عادة للحديث عن عملية النظم مدعيا بأن لأبياتها وكلماتها مذاق لذيذ على ألسنة المنشدين وشفاههم فلا يملون من تكرارها، وأن لوزنها وقافيتها وقع جميل على مسامع المتلقين ونفوسهم فلا يملون من سماعها، فأبياتها أحلى من الشهد أو الرُطَب وألذ من حليب النوق الأبكار التي ترعى نبانيب العشب الغضة والأزهار العطرة وأشهى من الماء البارد الزلال على كبد الصادئ الظمآن، وإيقاعها أجمل من رنين دنانير الذهب والفضة في يد المعسر المحتاج. يقول نهار المورقي في مطلع أحد قصائده:

     يقوله المورقي غنى بالالحان الطريّه      من خاطره يوم يبدي باللحن ما يستحيرِ

     قيلٍ كما الذوب والا التمر من فرع الوديّه         في شوبة القيض والجنّاي فيها يستديرِ

وغالبا ما ترتبط مع القصيدة سالفةٍ تحكي للحضور شيئا عن حياة الشاعر وعن خلفية القصيدة والمناسبة التي قيلت فيها والأسباب الباعثة لنظمها وتفصل القول في شرح إشارات القصيدة وتضعها في سياقها الصحيح الذي يعين على فهمها ومعرفة الأحداث التي تخلدها والأسماء والمواقع التي ترد فيها. وفي كثير من الأحيان تشكل السالفة جزءا عضويا من القصيدة من الناحيتين الفنية والتاريخية وعدم إيراد السالفة في تلك الحالة يترتب عليه خلل جوهري يعيق عملية الفهم والتذوق. ومثلما أن السالفة تلقي الضوء على القصيدة وتفسر أبياتها فإن القصيدة في نظر البعض تعتبر الدليل المادي الذي يشهد على مصداقية السالفة ويوكد على حقيقة ما تتضمنه من وقائع وأحداث، ويقولون إن القصيدة تحفظ السالفة من النسيان أو من نسبتها إلى من ليست هي له مثلما تحفظ الوسوم الإبل من الضياع أو السرقة أو الاختلاط بغيرها من الأذواد. ونظرا لما بين القصيدة والسالفة من علاقة عضوية فإن أي تغيير في القصيدة بسبب اختلاف الرواية سوف يترتب عليه بالضرورة تغيير في السالفة يتناسب معه. ولو تخلخل ترتيب أبيات القصيدة أو سقطت منها بعض الأبيات فإن ذلك سيكون له أثره على فحوى السالفة.

طغيان متطلبات السرد وضرورات الحبكة القصصية على المصداقية التاريخية يقود بالتدريج إلى تداخل التاريخي مع الأسطوري والواقعي مع الخيالى والرمزي مع الحرفي وبالتالي تغلب الخيال والمبالغة، التي هي من خصائص الأسلوب الأدبي، على الوقائع التاريخية. ومن المؤشرات على انزلاق النص نحو الأسطورة بعيدا عن التاريخ أن يتضمن أحداثا وعناصر فنية تتكرر في حكايات أخرى وترد في مواقع سرد مفصلية لتؤدي نفس الوظيفة. هنا تكون الوظيفة سردية وليست تاريخية، أي أن القصد من إيراد الحدث ليس توثيق حادثة تاريخية وقعت فعلا وإنما هو لبنة من لبنات البناء القصصي وحلقة في سلسلة السرد المترابط توجهه وتدفعه نحو الاستمرار والتقدم إلى الأمام. ومنها ما يفيد في إضافة عناصر درامية يتطلبها العمل الفني من مشاهد الكوميديا أو التراجيديا. من الأمثلة على ذلك أن يطلب شخص شخصا آخر بثأر ويجدّ الطالب في البحث بينما يجدّ المطلوب في الهرب. ويحدث أن المطلوب يُنشد وهو في مخبأه أبياتا يعبر فيها عن خوفه من طالبه الذي يمتدح شجاعته ورجولته. وتصدف أن الطالب يكون مختبأ في مكان قريب يتربص بغريمه مما يتيح له فرصة التصنت لأبياته دون أن يشعر به. إنشاد المطلوب لأبياته هكذا وبدون علم منه أن غريمه يتصنت له يعني أن هدفه من الإنشاد ليس التزلف ولا التملق ولا الاستجداء وإنما تعبير عن إعجاب حقيقي وشعور صادق وهذا ما يترك بالغ الأثر على نفس الطالب فيعفّ عن غريمه ويعفو عنه. وهناك الكثير من القصص المدونة على هذا المنوال. ومثال آخر أن تفرّق الأقدار بين فتى وفتاة وقعا في حب أحدهما الآخر، وبعد مدة لا يتحمل الفتى البعد عن فتاته فيموت من العشق ويحمّل أخاه وصية لفتاة أحلامه. لكن الأخ لا يعرف الفتاة فيقوم بجدل ظفائر شعر أخيه الميت ويعمل منها علائق لقربته ويرتحل على ذلوله يتنقل بين أحياء العرب لعله يعثر على عشيقة أخيه الميت. ويحل الأخ في مضارب قبيلة الفتاة دون أن يعرف أن هذا هو قطينها لكنها هي حالما رأت علائق القربة عرفت أنها ظفائر عشيقها. وهذا ما تتحدث عنه حكاية مغتر وغتران المتداولة في عالية نجد.

آليات الرواية الشفهية بطبيعتها تنزع دوما نحو تحويل وقائع التاريخ إلى عناصر أدبية وحقائق الحياة إلى مشاهد تصويرية وهذا ما يقود إلى الانزلاق لاشعوريا من التفكير الواقعي إلى التفكير الأسطوري ومن السرد التاريخي إلى السرد الملحمي. وعلينا أن نتذكر دائما بأن الأسطوري مبني أصلا على التاريخي، لكن نظرا لانعدام أوعية حفظ المعلومات في المجتمعات الأمية الشفهية عدا الذاكرة الإنسانية فإن الذاكرة الشفهية تفرض آلىاتها على شكل النص مما يسهّل حفظه ويضمن بقاؤه قيد التداول عبر الأجيال. هذه الآلىات هي التي تعمل باستمرار على تحويل الوقائع التاريخية إلى موتيفات أسطورية من خلال صقل النص فنيا بما يتمشى مع متطلبات الحفظ الشفهي ولكن على حساب الواقعية والدقة التاريخية. ومع ذلك فإن هذا لا ينفي بالضرورة الأصل التاريخي للأحداث والشخصيات.

نتيجة تداخل الأسطوري مع التاريخي والنثري مع الشعري في السرد الشعبي نجد خلطا في أذهان الرواة يؤدي إلى اضطراب الرواية. الحكايات التي تنسج حول بعض الشخصيات والأحداث أقرب إلى التاريخ في شكلها السردي لكنها أقرب إلى الشعر في فك رموزها واستنباط معانيها. التداخل الحادث بين هذه الروايات الأسطورية، والتي هي في حقيقتها أقرب إلى الأعمال الإبداعية منها إلى الروايات التاريخية، لا يختلف عما نشاهده من اشتراك القصائد في الموضوعات والصور والتشبيهات والاستعارات وغير ذلك من الأدوات الفنية. تستعير الأساطير من بعضها البعض المواضيع والأحداث وعناصر السرد وآلياته مثلما تستعير القصائد من بعضها البعض المقدمات الطللية والغزلية ووصف الرحلة والناقة ومناظر الطرد ووصف الغيث. لذا لا بد من الاحتكام لمنطق الأدب والفن بدلا من منطق العلم والتاريخ في تعاملنا مع هذه الروايات.

الكتابة تثبّت الروايات المختلفة للنص الواحد بحيث يمكن وضعها جنبا إلى جنب للنظر إليها بالتزامن -بدلا من سماعها بالتتالي- ومن ثم مقابلتها لاكتشاف ما فيها من تضارب واختلافات، بينما تظل الروايات الشفاهية المختزنة في الصدور مبعثرة وفي حالة انفصال دائم عن بعضها البعض مما يسهل عملية التحول من التاريخ إلى الأسطورة. عدم وجود نص موثق ومقيد بالكتابة ومثبت على الورق يمكن الرجوع إلىه للتأكد من الأصل كل ما دعت الحاجة يعني أنه لا توجد آلىة لتصحيح النص وإعادته إلى أصله كلما شذ عنه، وكلما ابتعدت الروايات عن الأصل تعددت واختلفت عن بعضها البعض. عدم التثبيت الكتابي لمختلف الروايات الشفهية للقصيدة أو السالفة يجعل من الصعب اكتشاف ما بين هذه الروايات من اختلافات وتناقضات. ثم إن الافتقار إلى الحس التاريخي والجغرافي يجعل الراوية الشفهي غير مدرك لما يقع فيه من تناقضات، كأن يتحدث عن أحداث متباعدة زمانيا كما لو أنها متزامنة وعن أماكن متباعدة كما لو أنها متجاورة لا تفصل بينها مسافات، كأن يروي قصيدة لأحد بني هلال يتحدث فيها عن القهوة أو الشاي أو الدخان أو القتال بالبنادق، علما بأن هذ الأشياء لم تكن موجودة على زمن الهلاليين. ولذلك فإنه ليس من المستغرب أن نجد الرواة الشعبيين يوردون قصصا وقصائد باللهجة العامية وينسبونها إلى شخصيات من العصر الجاهلي يفترض أنها كانت تتكلم بالفصحى مثل عنترة أو المهلهل أو كليب أو جساس، مع قناعة الرواة وتأكيدهم على صحة هذه النسبة. كما أنهم يؤمنون بصحة الروايات التي يتداولونها عن تغريبة بني هلال أو عن هجرة الضياغم وما جرى بين عرار وعمير وسلطان مارد. وهذا ما عناه ابن خلدون في قوله عن أهل زمانه وتصديقهم لحكاية الجازية والشريف شكر "وهم متفقون على الخبر عن حال هذه الجازية والشريف خلفاً عن سلف، وجيلاً عن جيل، ويكاد القادح فيها والمستريب في أمرها أن يرمى عندهم بالجنون والخلل المفرط لتواترها بينهم".

من الآثار المترتبة على غياب الكتابة عدم تبلور ملكة النقد التاريخي والمنهجية التحليلية عند الرجل الأمي بحيث لا ترد على ذهنه بشكل واعٍ ودقيق مسألة التمييز بين التاريخي والأسطوري. أذكر أنني كنت استمع لأحد الرواة الأميين يروي لي أخبار وأشعار بني هلال وجاء على مقتل ذياب بن غانم لأبي زيد والأبيات التي قالها أبو زيد بعد ما قطع ذياب رأسه وقبيل موته منها:

     اوجست من راسي عظام تَحَدّر         ومن عند حلقي تقل لقم زاد

     لى ياهلي حطوا عليّ رِكّز الحصا       يبيد الفتي واسمالهن جداد

لا شك أن البيت الأول يصور حالة الموت بواقعية لا جدال فيها ولكن من المستحيل أن يقولها شخص قُطع رأسه. وقد رأيت في ذلك فرصة سانحة لمناقشة الراوي حول تاريخية ومصداقية أحداث وشخوص السيرة الهلالية فأصر على أن كل ما جاء في السيرة حقائق تاريخية. ولما طلبت منه دليلا على ذلك قال:

بني هلال ما هيب تمثيليه اللي عِدّك معهم، حتى حريمهم يعدّونهن فلانه وفلانه، والجيّان اللي هم ياطون والديار اللي هم يسكنون، إدر ان ما الناس مشبّهةٍ عليهم.

ثم استشهد على صحة الرواية بأبيات للشاعر ساكر الخمشي، وهو أيضا شخص أمي عقليته عقلية شفهية، منها قوله:

     ولد الخفاجي راح وامه تذوده          خذن قلبه بالمنى والمواعيد

     يبي يورّي مع هل الخيل جوده         وارّث لنا قصر الاخيضر وعربيد

كما ذكر لي أنه مُتأكّد أن قاتل الزناتي خليفة هو ذياب ابن غانم مستشهدا على ذلك بلوحة فنية (تخيليّة طبعا) رآها في سوريا: شايف صورته يوم انا بسوريا، الدم يدرج من عينه الزناتي، ذياب ضربه مع عينه. لم تقنعني هذه الأدلة التي هي أشبه بتفسير الماء بالماء لكنها كانت كافية بالنسبة للراوي الشفهي على أن سيرة بني هلال حقيقة تاريخية.

الأداء الشفهي يشبه الكتابة على الماء حيث يزول أثره حال الانتهاء منه. حينما نسمع النص يؤدى شفهيا مرة أخرى من الراوية نفسه أو من راوية آخر فإنه يصعب التحقق مما إذا كانت هذا الرواية الثانية مطابقة للأولى أم لا، ما لم نقم بتثبيت الروايات، إما عن طريق الكتابة أو التسجيل الصوتي، لمقابلتها مع بعضها. عدم إمكانية تثبيت الأصل بالتدوين وتقييده بالكتابة حال تحقّقه وتخلّقه يجعل النص الشفهي مرنا ودائم التشكل، إذ لا يوجد ما يمنع من تراكم التغيرات التي تطرأ عليه كلما ابتعد مكانيا عن موطنه الأصلي وزمانيا عن الأحداث الباعثة له، ويبتعد شيئا فشيئا عن الواقع ليحلق في عالم الأسطورة. ومع مرور الوقت وانتشار السالفة وابتعادها عن موطنها الوصلي تتضاءل قيمتها التاريخية أمام قيمتها الأدبية. التحول الأسطوري هو الذي يضمن بقاء الحكاية وانتشارها لأن الأسطورة تخرجها من الخصوصية التاريخية إلى العمومية والتجريد بحيث يجد فيها الجميع تعبيرا عن قناعاتهم وتطلعاتهم وتكريسا للقيم التي يؤمنون بها. وهناك الكثير من السوالف التي لقيت إقبالا كبيرا لهذه الأسباب تحديدا مثل سالفة المهادي مع جاره السبيعي وسالفة خلف بن دعيجا مع محيسن الربشاني وسالفة ماجد الحثربي مع مفوّز التجغيف.

ومن الأمثلة الأخرى على التغيرات التي تطرأ على الرواية الشفهية في رحلتها عبر الزمان والمكان تلك النصوص التي جمعها بعض المستشرقين من بادية الشام وفلسطين والعراق. ففي سنة 9191م نشر كارلو دي لاندبرج Carlo de Landberg سوالف وقصائد جمعها أثناء تجواله في منطقة حوران. السالفة الأولى التي يوردها لاندبرج سالفة ماجد الحثربي مع قصيدته التي مطلعها حسب هذه الرواية: ياعمرو يامشكاي يافرحتي شوف ومجموع أبياتها سبعة عشر بيتا. لكن السالفة كما أوردها لاندبرج تختلف كلية عما هو متداول بين الرواة في نجد وشمال الجزيرة العربية. كما تختلف أيضا رواية السالفة الثالثة التي تتحدث عن سعدون العواجي وما جرى له مع شامخ عن تلك التي أوردها المرحوم محمد بن أحمد السديري في كتابه أبطال من الصحراء التي استقاها مباشرة من رواة عنزة.

وابتداء من السبعينات من القرن العشرين بدأ البروفسور هايكي بالفا Heikki Palva من جامعة هلسنكي في فنلندا بنشر مقالات وأبحاث تتعلق بدراسة لهجات بادية الأردن مثل الحويطات والعجارمة وبني صخر ومناطق السلط والبلقا وحصبان تتألف معظمها من سوالف وقصائد شفهية سجلها مشافهة من الرواة أثناء وجوده بين أهل المناطق والقبائل المذكورة. خذ مثلا السالفة التي سجلها من أحد الرواة من قبيلة العجارمة الأردنية والتي نشرها سنة 6791 والتي تتحدث عن استيلاء عبدالله بن رشيد على السلطة في حائل. هذا الحدث التاريخي الموثق في كتب التاريخ المعتمدة يتحول في هذه الرواية إلى أسطورة بعيدة كل البعد عن الروايات المتداولة في شمال الجزيرة العربية والتي هي أقرب إلى الواقع التاريخي. هذه الرواية تخلط بين أحداث تتعلق بآل الرشيد وبين أحداث تتعلق بآل سعود. فنجد مثلا أن الاجرب، وهو سيف تركي بن عبدالله آل سعود، يصبح سيفا لعبدالله ابن رشيد، ومْعَزّي، وهو أحد ألقاب الملك عبدالعزيز آل سعود يتحول ليصبح أحد أفراد آل رشيد. أما القصيدة الموجهة من تركي آل سعود إلى ابن عمه مشاري وهو في مصر (قم ياقلم واكتب على ما تورّى) فإنها تنسب لعبدالله بن رشيد ويصبح مشاري من آل رشيد ويذهب إلى فرنسا بدلا من مصر، ويصبح فهاد بن مسطح الذي كان بمعية عبدالله ابن رشيد حينما ذهب إلى العراق أخا له. وفي الرواية التي سجلها بالفا يذهب عبدالله بن رشيد إلى مصر بدلا من العراق. وتنسب لعبدالله بن رشيد في هذه الرواية قصائد ليست له مثل قصيدة طلال بن غازي من الدغيرات التي مطلعها: الله من كبدٍ بها المر زايم.

التداخل بين التاريخي والأسطوري لا يتوقف عند حد تحول أحداث التاريخ إلى روايات أسطورية وفق الآليات التي تحدثنا عنها، بل إن عدم تمييز الثقافة الشفهية بين التاريخي والأسطوري يجعل من عالم الأسطورة ذاته أنموذجا يحتذيه عالم الواقع وبموجب ذلك يتحول السرد التاريخي إلى محاكاة للسرد الأسطوري. مثلا هناك الكثير من المشاهد التي ترد في روايات تغريبة بني هلال ورحلة الضياغم الأسطورية تتكرر في روايات الأحداث والنزاعات القبلية التي يفترض أنها أحداث تاريخية. أي أن الأعمال البطولية التي أنجزها أبطال الضياغم وبني هلال تعيد الرواية الشفهية إنتاجها بحذافيرها على يد فرسان القبيلة، لكن ليس بالضرورة إنتاجا فعليا بقدر ما هو إنتاج سردي. لنورد بعض الأمثلة على ذلك:

1/ لما ضرب عرار زوجته عميرة وكسر سنها أرسلت سنها المكسور لأخيها عمير لتحثه على الأخذ بثأرها من عرار، وهذا ما فعلته سلمى السعَدِية المداوية من الزميل التي كسر سنها ابن وتيد فأرسلته لعبكل ابن ثنيان الذي كان حينها يقيم في الأحساء وجاء من هناك للأخذ بالثأر لها من ابن وتيد، كما تقول الرواية الشفهية.

2/ اختلف حسن ابن سرحان وابا زيد وذياب ابن غانم من منهم يتزوج الصفيرا بنت الزناتي خليفة والتي لا تتزوج إلا بمن تريده هي حسبما جاء في البيت:

     قالت لهم ما تاخذ الا برايها      لو كان جمّالٍ ردي العزايم

وتقول الرواية الشعبية أن مليكة بنت أصفر التي تزوجت من زميل جد الزميل من سنجارة من شمر أيضا: رَجلَه بعينَه، تقول ما آخذ الرجل كود اللي انا اشوف فَرْسِتُه على الخيل ويدخل نْظِري.

3/ لما اقترب بنو هلال من ديرة الملك الغضبان حاكم بلاد التركمان طلب منهم عددا من النساء والأموال مقابل استقرارهم بأرضه وخاطبهم بلهجة شديدة فأجابه أبو زيد بهذه القصيده:

     طلبت بنات مكحّلاتٍ نواعس     بنات الاماره مثل ورد البيد

     ما كنت تعلم ياخسيس ان وراهن        أسود قروم هلال وكل حميد

وهذا يذكرنا بموقف شويش العجرش مع الأتراك الذين تقدموا بطلب مماثل من شمر الجربا فتصدّى لهم شويش العجرّش في قصة يتداولها الرواة ويلحقونها بأبيات لردهان بن عنقا تقول:

     خذيت بالخابور مشتى ومرباع         لا شفت سلاف ولا شفت مظهور

     هنيكم يانايمين حدر قاع       ما مركم ودي تقفاوه خاكور

     مِتّوا على شيمه وحشمه وبِزّاع         ما من عديم يحترف ينغز الثور؟

4/ مثلما اضطر الهلاليون لما احتدم القتال بينهم وبين الزناتية لتربيط أبي زيد تقول الرواية الشعبية أن الأسلم فعلوا نفس الشيء مع ضاري ابن طواله في حربهم على مورد أبظه، وأقسم ضاري على النساء إن لم يطلقنه أن يقتلهن جميعا إذا انتهى القتال وفك القوم رباطه.

ومن السوالف التي جمعتها من رواة شمر والتي دارت أحداثها في بداية القرن العشرين سالفة مشهورة عند رواة شمر وهي سالفة نقلة الشلقان لخويهم مجيدع الربوض. جمعت هذه السالفة من ثمانية رواة. أول ما نلاحظه أن الرواة اللصيقين بأبطال القصة يعرفونهم جيدا وتتفق روايتهم في عدد الأشخاص وأسمائهم، على خلاف الرواة البعيدين الذين لا يعرفون إلا بعض الأسماء. وتختلف الأدوار الرئيسية باختلاف الرواة حيث أن كل راوية من الرواة اللصيقين بأبطال القصة يعطي دورا أكبر لقريبه. ونلاحظ أيضا أن الرواة البعيدين يختصرون القصة وينصب تركيزهم على القصيدة، بخلاف الرواة القريبين الذين يولون القصة أهمية لا تقل عن تلك التي يولونها القصيدة. وكل ما ابتعدت صلة الراوي بأشخاص القصة كلما ابتعدت روايته عن الواقعية وأخذت منحى قصصيا أدبيا. وقد لاحظت أن الكاسب العبكلي وفرحان بن غريب، بحكم قربهم ومعايشتهم للعصر الذي حدثت فيه القصة وفهمهم لذلك المحيط الثقافي والاجتماعي لا يغرقون في إيراد المعلومات التوضيحية ظنا منهم أن ما يعرفونهم هم عن تلك الفترة يعرفه غيرهم وما لا يخفى عنهم لا يخفي عن الآخرين. كان لا بد لي من طرح أسئلة كثيرة عليهم أثناء سردهم للقصة لأفهم خلفياتها وأحصل على التصور اللازم لفهمها. أما راضي بن غريب فيبدو لي أنه بحكم صغر سنه مر بنفس التجربة التي مررت بها وحاول أن يسأل ويناقش الرواة الذين سمع منهم القصة وبنى لنفسه رواية متماسكة مكتملة بكل التفاصيل والمعلومات والشروحات اللازمة التي وجدت طريقها لتتظافر مع روايته لتصبح جزءا من نسيجها الكلي. كذلك عايد الربوض فإن سنه أصغر من أن يكون لديه تصورا واضحا عن تلك الفترة لكنه لم يجتهد مثلما اجتهد راضي (الذي ربما اجتهد لأن والده كان من شخوص القصة) للحصول على رواية متكاملة ومتماسكة وموثوقة، لذا لاحظت أنه أحيانا يحاول سد الفجوات السردية أو تفسير الغموض حيثما اتفق.

تتلخص السالفة في أن الأشخاص التسعة المذكورين انطلقوا غازين من منطقة حائل وشنوا غارة على إبل الحويطات بالقرب من معان في الأردن وهربوا بها. إلا أن الحويطات أدركوهم قبل أن يذهبوا بعيدا واستنقذوا منهم الإبل المنهوبة وأصيب مجيدع الربوض بطلقة كسرت ساقه. ولم يكن أمام الشلقان بعد ما كُسرت ساق رفيقهم إلا الاستسلام للحويطات الذين سلبوا منهم ركائبهم وبواريدهم وملابسهم ولم يبقوا معهم شيئا. واضطر الغزاة إلى حمل رفيقهم الكسير على أكتافهم من الحدود الأردنية حتى مدينة الجوف. وتتحدث السالفة عن المشاق التي تحملوها والصعاب التي واجهوها في الطريق خلال رحلتهم الصحراوية الطويلة التي استغرقت أكثر من أسبوعين وعانوا فيها من التعب والجوع والعطش. والمغزى البطولي والأخلاقي في القصة يتمثل فيما ينبغي أن يتحمله الإنسان وما يتعرض له من المخاطر في سبيل عدم التخلي عن الرفيق، وهذا ما تخلده قصيدة مجيدع في تلك المناسبة. ولذلك فإن الباعث لرواية السالفة في المقام الأول هو التعبير عن الإعجاب بهذا التصرف البطولي والتأكيد على المغزى الأخلاقي للقصة، وليس التوثيق الدقيق لها كما حدثت فعلا. وشيئا فشيئا تنمو العناصر البطولية والاعتبارات الأخلاقية في رواية الحادثة على حساب الوقائع التاريخية لتتحول من حكاية واقعية إلى قصة درامية تزداد فيها المخاطر وتتراكم المشاق وتتضخم الصعاب وتحلق البطولات إلى الذروة وتطغى متطلبات السرد القصصي وضرورات الحبكة الدرامية على المصداقية التاريخية. وأصبحت القصة بالنسبة للشلقان رصيدا بطوليا ودعائيا الكل يحرص على تضخيمه وبقائه حيا في الذاكرة الجماعية.

ومن السمات المميزة للسالفة تداخل السرد الحكائي مع معلومات تفصيلية وملاحظات تفسيرية تتظافر معها لتوفر الخلفية اللازمة لمتابعة أحداثها والتعرف على شخصياتها ومواقع حدوثها. لذلك نجد المؤدي كثيراً ما يضطر أثناء سرده للسالفة إلى قطع التسلسل السردي لكي يورد مثل هذه التفاصيل والتوضيحات والتنبيهات الضرورية التي توفر للمستمع الخلفية الكافية لفهم السالفة. ومما تشمله هذه المداخلات شرح المفردات المهجورة والممارسات المنقرضة والعادات والتقالىد البائدة وأسماء الأماكن وبعدها عن بعضها البعض والأشخاص وأنسابهم وعلاقتهم ببعضهم البعض.

تدكيك هذه المداخلات التوضيحية في ثنايا السالفة يصبح أمرا ضروريا كلما ابتعدنا عن موطنها الأصلي وسياقها التاريخي. الراوي المتمكن يدرك مدى بعد المتلقين عن محيط السالفة لغويا وثقافيا ومدى حاجتهم لمثل هذه التوضيحات ويوفرها لهم بالقدر الكافي الذي يمكنهم من المتابعة دون إغراق السالفة بهذه التفاصيل التي لو زادت عن الحد اللازم لأفقدت السالفة تماسكها السردي. ويتعطش المتلقون لمثل هذه التفاصيل ويطربون لسماعها مثلما يطربون لسماع أحداث السالفة. وبالنسبة للباحث توفر هذه التفاصيل معلومات قيمة تعكس أسلوب المعيشة وحياة الناس الثقافية والاجتماعية في العصور الماضية. فليست السوالف والقصائد مجرد وثائق تاريخية بالمعنى الضيق للكلمة، بل هي أيضا وثائق سياسية واجتماعية وثقافية واقتصادية نستطيع أن نستشف منها القيم والممارسات السائدة في العصور الفائتة. وهذا ما يتمشى مع وظيفة الشعر والسوالف كنماذج يقتدي بها الناس في سلوكهم وترسخ قناعتهم بقيمهم الاجتماعية.

ومثل هذه المعلومات التفصيلية التي يقحمها الراوي في سالفته تشبه إلى حد ما الاستطرادات التي يقحمها الشاعر في قصيدته، والتي بدورها عادة ما تحتوي على معلومات إثنوغرافية قيمة. الاستطراد الوصفي في القصيدة لا يوثق حدثا بعينه بقدر ما هو خلاصة عامة يجردها الشاعر من حوادث الحياة الىومية. انظر مثلا إلى هذا الاستطراد القصير الذي يصف ركبا نفد زادهم وماؤهم في حر الصيف وتاهوا يسيرون حفاة بلا هدى في مفازة لا ماء فيها:

     ياوجودي وجد ركبٍ بْداويّه      من لهيب القيظ حاديهم اللال

     روّحوا واقفوا مع الحزم رجليّه         لا صميل ولا زهابٍ ولا نْعال

     ورّدوا عِدًّ يبونه عشاويّه       وافختوه وجيشهم كلها هْزال

وما قلناه عن طبيعة الرواية الشفهية بالنسبة للحكايات والأشعار ينطبق بنفس المصداقية على الأنساب القبلية. القبيلة هي مجموعة من الخمسات التي توصلت إلى اتفاقية دفاع مشترك، مع استقلالية كل منها في تسيير شؤون حياتها اليومية. في مجتمعاتنا المعاصرة نعتبر مثل هذا الإجراء تحالفا وندخله في نطاق السياسة ونعطيه مصطلحا سياسيا، لكن المجتمع البدوي لا يفرق تفريقا حادا بين الاجتماعي والسياسي. ولذا يستخدمون مفردات العلاقات القرابية للإشارة إلى العلاقات السياسية ويصبح الحليف ابن عم. استخدم المتحالفون الأصليون مصطلح ابن عم للإشارة إلى بعضهم البعض لأن هذا كان مصطلحا جاهزا فاستعاروه للإشارة إلى أن التزامات الحلفاء واحدهم تجاه الآخر تشبه التزامات أبناء العمومة. ومع تقادم الزمن وطول استخدام مصطلح ابن العم للإشارة إلى الحلفاء الذين تتكون منهم القبيلة تأتي أجيال غالبيتها لا تدرك أن المصطلح استخدم أساسا بطريق المجاز وتوهموا أنهم حقيقة أبناء عمومة وأقرباء يلتقون في جد بعيد. وهكذا يتحول البناء القبلي من قرابة مجازية إلى أيديولوجيا قبلية تحتم على من ينتمون لها التمسك بأي سبب من الأسباب لإثبات قرابتهم مع بعضهم البعض.

كان المتحالفون في العصر الجاهلي يأخذون على أنفسهم العهود ويقسمون على مناصرة بعضهم بعضا ولذلك سموه حلفا وكانوا يغمسون أيديهم في الطيب أو الدم أثناء عقد الحلف ويرددون "الدم الدم والهدم الهدم"، ولذلك سميت اليمين المغلظة غموسا. أي أن المتحالفين يعمدون إلى محاكاة علاقة القربى كحقيقة بيولوجية محاكاة مجازية بأن ينحروا شاتا ويتلقوا دمها الساخن في إناء يغمسون أيديهم فيه. ومن الأحلاف المشهورة في الجاهلية حلف الفضول وحلف المطيبين. وفي العصور الأخيرة يتم التحالف بأن يذبح الحليف شاتا يسمونها شاة الحلف ويدعو لها أعيان القبيلة وشيوخها ليكونوا شهودا على الحلف. ويقسم المتحالفون أنهم جماعة واحدة وأن حليفهم يِدّي مدّاهم ويجلي مجلاهم أي يؤدي مثل ما يؤدون من المغارم ويجلي معهم لو اضطروا للجلاء عن ديارهم، أي أنه معهم على السراء والضراء.

وتأتي الأسطورة والميثولوجيا لسد الفجوات وردم الثغرات والتناقضات التي تثقل الأيديولوجيا القبلية. يبدو النظام القبلي متسقا ومتماسكا طالما صدقنا ما يحاك حوله من الأساطير والحكايات الميثولوجية. ولكن حالما نزيل هذه الغشاوة وننظر إلى النظام القبلي بعين مجردة وعقلية محايدة فإنه يتداعى بسهولة وتظهر تناقضاته. ومع ذلك فإن الأيديولوجيا القبلية من القوة بحيث يصعب انتزاعها من النفوس، على ما فيها من تناقضات وأحداث خارقة للعادة. وكما سبق القول، الذهنية الشفهية تفتقر للملكة النقدية والمنهجية التحليلية التي بها تستطيع تمييز التاريخي من الأسطوري، سواء في الأنساب أو في الأحداث القبلية. فالمعلومات التي يحملها أبناء القبيلة في أذهانهم عن أنسابهم القبلية معلومات متناثرة كل منهم يحمل منها نتفا مبعثرة في الذاكرة. وحالما نخضع هذه النتف المبعثرة للتدوين ونحاول تنظيمها وتنسيقها بهدف ربط أبناء القبيلة كلهم في نظام هرمي يصلهم بجدهم المفترض أو مشجر نسب يمتد عبر تاريخ القبيلة الزمني وأماكن تواجدها الجغرافي تظهر الصعوبات التي تجعل من هذا العمل أمرا مستحيلا. سوف نجد أن المعلومات التي يحملها أبناء القبيلة عن نسبهم القبلي متضاربة وأن هناك فجوات يصعب ردمها.

لو تتبعنا تاريخ القبائل العربية في مراحله المتعاقبة منذ عصور ما قبل الإسلام حتى وقتنا الحاضر لوجدنا أن غالبية القبائل تغيرت تركيبتها كليا عما كانت عليه في الأزمنة السابقة لا من حيث المسمى ولا من حيث التكوين، فهي في تموج دائم وتشكل مستمر، وهي بذلك لا تحتلف عن الممالك والدول التي تتغير أسماؤها وحدودها وتركيبتها السكانية على مر العصور. نتيجة الهجرة وظروف البيئة والمشاحنات والنزاعات والحروب والأوبئة وجراء ما تتعرض له القبيلة من ضغوط وعوامل داخلية وخارجية مختلفة يتصدع بنيانها وتتفكك وحداتها الصغرى من خمسات وبطون وأفخاذ وتنفصل عن بعضها البعض لتلتحم مع فروع أخرى من قبائل مختلفة عن طريق التحالف والولاء والجوار والمصاهرة، وما إلى ذلك.

ولو تفحصنا أي قبيلة من القبائل المعاصرة ودققنا النظر في فروعها المختلفة لوجدنا غالبية هذه الفروع عبارة عن نزايع انفصلت من قبائل سابقة والتحمت مع بعضها لتشكل تكوينات قبلية جديدة بمسميات جديدة. ولذلك نجد أنه كل ما دب خلاف بين فرعين أو أكثر من فروع القبيلة الواحدة يحاول كل منها أن يؤكد أصالة انتمائه إلى القبيلة وانحداره من الجد الأعلى لها وينفي ذلك عن الفرع الآخر. وكتب التاريح والأنساب مليئة بالإشارات إلى فروع مهمة أصبحت تنتمي إلى هذه القبيلة أو تلك لكن جذورها البعيدة تعود إلى قبيلة أخرى. ومع أنك قلما تجد أن قبيلة من قبائل الجاهلية وصدر الإسلام لا تزال موجودة ومحتفظة باسمها وهويتها الأصلية إلا أن هناك العديد من الفروع القبلية التي لا تزال تحتفظ بأسمائها القديمة لكنها انضوت كفروع لقبائل حديثة التسمية وحديثة النشأة والتكوين. هذا ما نقصدة بالقول بأن القبيلة حقيقة سياسية وليست حقيقة بيولوجية. ومهما ادعى أبناء القبيلة أنهم جميعهم ينحدرون من جد واحد فإن هذا الادعاء ليس أمرا مؤكدا.

وعلى الرغم من أن القبائل العربية لا تعترف إلا بالنسب الأبوي فإن النساء تلعب دورا لا يستهان به ضمن الآليات التي يلجأون لها إما لتفريع العشيرة إلى فروع أو ليلحقوا من ليسوا من القبيلة بنسبها. فإذا تزوج رجل عدة زوجات فإن أبناء كل زوجة من الزوجات يمكن أن يؤسسوا فرعا مستقلا يقال لهم آل فلانة. وإذا أرادوا أن يلحقوا بالقبيلة من ليسوا أصلا منها يقولون مثلا أن هؤلاء أمهم أجنبية من قبيلة غير قبيلة الأب وأن الأب ذهب ليرعى عند قبيلة الأم أو أنه توقف عند قبيلة الأم وهو في طريقه إلى الغزو وأنه تزوجها وتركها عند أهلها وولدت له إبنا تربى مع أخواله ولما كبر عاد إلى قبيلة أبيه. الكثير من الأجداد المفترضين تشير الروايات الشفهية أن أمهاتهم أجنبيات من قبيلة غير قبيلة الأب وأن الإبن يتربى مع أخواله وبعد أن يكبر يعود إلى قبيلة أبيه في الوقت المناسب لينقذه من مناوئيه ويسترد له مكانته ويصبح شيخا للقبيلة.

وعموما فإنه مهما حاول علماء الأنساب أن يقعّدوا الأنساب ويقدموا لنا نظاما نظريا منسّقا لأنساب القبائل العربية ومشجرات نسبٍ تتشابك غصونها وتلتف أفنانها لتلتقي في نهاية المطاف في عدنان أو قحطان فإن هذا ليس إلا محاولة منهم للتقعيد وفرض قدرٍ من النظام والاطراد وتثبيت واقع ديناميكي معقد. والنسابون في عملهم هذا لا يختلفون مثلا عن النحويين الذين يحاولون تقعيد اللغة وتثبيتها غير مدركين أن اللغة، كما هي الحال في النسب وفي مختلف أوجه السلوك الإنساني، كائن متحرك يخضع لظروف الزمان والمكان ومتطلبات العيش الإنساني.

وكثيرا ما نلاحظ أنه بعد الجد الخامس تبدأ الاختلافات الواضحة بين الرواة في سلسلة أسماء الجدود. وليست محدودية الذاكرة المسؤول الوحيد عن هذا الاختلاف، بل لا يستبعد أحيانا أن يكون الاختلاف مرده إلى اختلاف المصالح وتضارب الأهواء ومحاولة كل طرف من أطراف هذه الاختلافات تبني التسلسل الذي يخدم أهدافه. واختلافات التسلسل أحيانا تعكس التحولات التي طرأت على القبيلة إما نتيجة نقض أحلاف قديمة والدخول في تحالفات جديدة أو انتقال الشيخة من بيت إلى بيت أو من فرع في القبيلة إلى فرع آخر. وغالبا ما تتولد عن اختلافات التسلسل أساطير متضاربة حول نشأة القبيلة وتاريخ أجدادها. وهناك دائما داخل المجتمع القبلي نفسه نخبة واعية لحقيقة النسق ومدركة لمواطن الضعف في الأيديولوجيا القبلية مما يجعلها قادرة على المناورات البارعة داخل هذا النسق أو إعادة تشكيله. يدرك هؤلاء أن العلاقة القبلية، وإن اتخذت مظهر العلاقة القرابية، في حقيقتها علاقة سياسية يمكن توظيفها لتحقيق أهداف سياسية. وما عليهم في بعض الأحيان إلا أن يستبدلوا أسطورة بأخرى تفسر الطريقة التي تغير بها الوضع عما كان عليه في السابق وتعطي تبريرا لهذا التغيير. إنها ممارسة لا تختلف عما نسميه في عصرنا الحاضر إعادة كتابة التاريخ أو كتابته من وجهة نظر معينة، مع تحفظنا على استخدام كلمة "كتابة" هنا لأننا نتحدث عن تاريخ شفهي يُروى ولا يُدوّن.

والآن دعوني أحاول أن أقدم تفسيرا يحدد الآليات التي يتم بها التحول من التاريخي إلى الأسطوري في عالم الثقافة الشفهية. المعارف الشفاهية معارف تكديسية تراكمية تقوم على حشد المعلومات لكنها تفتقر إلى وسائل الدمج وآليات الربط والتركيب وإلى أدوات التأمل والنقد والتحليل التي توفرها الكتابة والتي تقود إلى صقل ملكة النقد والتحليل. في الثقافة الشفاهية يختزن كل فرد ما يعرفه في صدره ولا سبيل إلى تبليغه للآخرين إلا بالمشافهة وإذا مات مات معه علمه. لذا تبقى هذه المعارف الفردية المخزونة في الصدور مبعثرة وفي حالة انفصال دائم عن بعضها البعض. أما في الثقافة الكتابية فإنه يمكن تدوين المعارف في كتب تودع في مكتبات يمكن لأي من كان أن يطّلع عليها وتبقى إلى الأبد وكل جيل يضيف إليها ما يستجد لديه. بفضل الكتابة تراكمت المعارف التي مكنت من بلورة التحليل السببي وما يقود إليه ذلك من التساؤل والفضول والتعطش إلى المعرفة لذاتها. هذا لا يعني أن الإنسان الأمي يفتقر إلى الحكمة والعقل لكن هناك عمليات ذهنية ومنطقية لا تتحقق إلا بالكتابة مثل كون الطيران لا يتحقق إلا بالأجنحة.

اللغة والكتابة كلاهما خاصيتان إنسانيتان يتميز بهما الإنسان عن بقية الكائنات، لكن اللغة خاصية بيولوجية وجدت منذ وجد الإنسان بينما الكتابة خاصية ثقافية اكتسبها الإنسان في وقت متأخر من تاريخ وجوده على الأرض. الكتابة مهدت الطريق لظهور العلوم العصرية والإنجازات الحضارية التي يتوقف عليها تطور الجنس البشري. علوم الفلك والرياضيات والمنطق والفلسفة والعلوم الطبيعية إجمالا لم يكن من الممكن لها أن تتحقق بدون الكتابة. هناك عمليات رياضية أبسطها القسمة والضرب وعمليات منطقية مثل القياس والاستدلال وعمليات ذهنية مثل الاستنباط والاستقراء يستحيل أصلا إجراؤها بدون الاستعانة بالكتابة. كما أن الملاحظة والرصد والمسح والتوثيق وعمليات الإحصاء وجمع المعلومات لا يمكن تحقيقها بدون الكتابة.

الثقافة في نهاية المطاف مجموعة العمليات التواصلية، لذا فإن الاختلاف في وسائل الاتصال المعلوماتي غالبا له نفس الأهمية التي لأساليب الإنتاج المعلوماتي، لأنها تشمل تطوير سبل التخزين والتحليل وتوليد المعرفة. التدوين فسح المجال لإمكانية تفحص الكلام بشكل مغاير وذلك بإعطاء اللفظ شكلا ثابتا. هذا التفحص سمح بتوسيع آفاق الممارسات النقدية، ومن ثم نمو العقلانية والمنطق. وهذا ما أدى إلى دفع عجلة النقد، لأن الكتابة أتاحت إمكانية التراكم المعرفي، مثلما غيرت نظم تخزين المعلومات. فلم تعد مشكلة التخزين في الذاكرة هي المسيطرة على العمليات الذهنية عند الإنسان. تحرر العقل الإنساني من هذا العبء ليتفرغ لتحليل "النص" المقيّد. الكتابة أتاحت إمكانية مراجعة المعلومات التي أنتجها البشر خلال فترة ممتدة من الزمن.

الكتابة ليست مجرد وسيلة عالية الكفاءة لتسجيل المعلومات وحفظها وتذكرها، بل هي أيضا وسيلة ناجعة لتنظيم المعرفة وترتيبها وتصنيفها والتعامل معها بطريقة تساعد على تحليلها ومعالجتها وإخضاعها لمختلف العمليات المنطقية والنقدية. تدوين النصوص وتثبيتها بواسطة الكتابة ثم وضعها جنبا إلى جنب والنظر إليها بالتزامن، بدلا من سماعها بالتتالي الذي هو سمة الكلام الشفاهي، والمقارنة فيما بينها يساعد على اكتشاف ما فيها من غموض وتناقضات وأخطاء وتضارب وكذلك ما فيها من انتظام واطراد مما يمكن صياغته على شكل قواعد أو قوانين علمية. اكتشاف قواعد اللغة من نحو وصرف غير ممكنة بدون تقييد الألفاظ والعبارات وتثبيتها كتابيا بحيث يمكن المقارنة فيما بينها والنظر إليها بالتزامن. كما أن تثبيت الكتابة للروايات المتعددة للقصيدة الواحدة أو الحادثة التاريخية هو الذي يسهل علينا اكتشاف ما بين هذه الروايات المختلفة من تضارب واختلافات تصعب ملاحظتها في ظل الرواية الشفاهية الشاردة. ومن هنا نجد أن اكتشاف قواعد اللغة العربية وأوزان الشعر العربي، وغير ذلك من الإنجازات العلمية في مجالات اللغة والأدب لم تأت إلا بعد تفشي الكتابة في القرن الثاني الهجري، وفي هذه الفترة ذاتها أيضا بدأت الاختلافات في رواية القصائد الجاهلية تشكل معضلة تسترعي الانتباه وتثير التساؤلات والشكوك.

غياب الكتابة غيّب الحس التاريخي عند الرجل الأمي وجعله يعيش دائما في الحاضر. أحداث الماضي البعيد التي لم تعد ذات صلة بالحاضر تنتفي الحاجة لإعادة الحديث عنها وتكرارها فتتبخر من الذاكرة أو تُحوّر وتحدّث بشكل تلقائي وتدريجي غير محسوس في انتقالها شفاهيا من راو لآخر ومن جيل لجيل مما يفقدها هويتها الأولى لتصبح متوافقة مع متطلبات كل عصر. الشعوب الشفاهية تعكس التاريخ وترويه بالمقلوب بحيث تبدأ من الحاضر باتجاه الماضي، تماما مثل تتبع النسب من الأحياء نكوصا إلى الأسلاف. الرجل المتعلم يعرف الكثير من خلال قراءاته واطلاعه على المصادر المكتوبة عن التاريخ العربي منذ عصور ما قبل الإسلام حتى الوقت الحاضر، على خلاف الرجل الأمي الذي لا يعرف من التاريخ إلا نتفا من الروايات الشفاهية المشوشة التي لا يتعدى عمقها الزمني مائتي سنة. غَمْر الماضي بمقتضيات الحاضر يجعل الإنسان الأمي ينظر إلى الأمس دائما بعيون اليوم دون أن يدرك حقيقة التطور أو يعي مسيرة الزمن وعمق التاريخ فيركن إلى الاعتقاد بأن العالم كان وما زال وسيظل كما هو. فالأنساب والأصول والتشكيلات القبلية القديمة تُنسى ويتصرف أبناء القبيلة كما لو كان التكوين القبلي الحاضر أزليا منذ بداية الخليقة. مثل هذه التغيرات تزحف على النص الشفهي دون أن يشعر بها أحد ودون أن يستطيع أحد أن يقف في طريقها وذلك لعدم وجود نص أصلي مثبت يمكن الرجوع إليه للمقابلة والتحقق.

المعلومات التاريخية التي تتضمنها السوالف والقصائد توثق الصراعات القبلية والإقليمية ولذلك يرى البعض أن الخوض فيها الآن قد يشكل زعزعة للاستقرار السياسي والاجتماعي. وهذا على خلاف المعلومات الإثنوغرافية التي لا تخص قبيلة دون أخرى ولا يثير الحديث فيها أي حزازات قبلية أو إقليمية. ولذلك فإنها ليست عرضة للرقابة الصارمة مثلما هو عليه الحال بالنسبة للتاريخ القبلي ولا يضطر من يخوض فيها إلى تحوير الوقائع وتحريفها لتجنب المحاذير الرقابية لأن ليس فيها أية محاذير تذكر. بل على العكس، نجد أن الناس دائما كانوا ينظرون إلى قيم البادية وثقافة الصحراء نظرة مثالىة بصفتها تمثل بالنسبة لهم قيم الفروسية والمروءة والشهامة والنخوة والأمانة وكل القيم الأصيلة التي يمجدونها. هذه النظرة المثالىة المصبوغة بالرومانسية والنوستالجيا هي التي ينبغي الاحتراز منها في تعاملنا مع ثقافة الصحراء لأنها تبعدنا عن الموضوعية العلمية المحايدة. والكثير من المؤلفات الشعبية ومجاميع الشعر النبطي التي نشرت عندنا تنحى هذا المنحى الرومانسي الممزوج بالنوستالجيا والحنين إلى الماضي وقيم الأجداد.

ومع ذلك نعود لنؤكد أن السوالف والقصائد مهما اختلفت رواياتها وبعدت عن أصلها وأوغلت في عوالم الأسطورة والخرافة فإن ذلك لا ينفي منشأها التاريخي وتجذرها في وقائع الأحداث اليومية المعاشة. فالسالفة تبدأ على شكل تقارير إخبارية متناثرة " علوم" من شهود عيان ومشاركين فعليين في أحداث السالفة. وشيئا فشيئا تتعنقد هذه العلوم على شكل سالفة تتبلور على ألسنة الرواة ويصقلها التداول الشفهي إلى أن يطغى فيها الأسلوب الأدبى الروائي على حقائق التاريخ. طبيعة الرواية الشفهية وآليات التداول الشفهي هي المسؤولة عن هذا التحول من بذرة التاريخ إلى شجرة الأسطورة.

تداخل التاريخي والأسطوري وما تتعرض له السوالف والقصائد والأنساب من تحويرات وتغييرات يقودنا إلى التساؤل عن القيمة العلمية لهذه المادة الأدبية كمصادر توثيقية. يمكن النظر إلى القيمة التوثيقية للنص الشفهي من ثلاث زوايا؛ الزاوية اللغوية والزاوية التاريخية والزاوية الإثنوغرافية.

اعتماد النص الشفهي في حفظه وتداوله على الرواية الشفهية يعني تعدد الرواة ومن ثم تعدد الروايات، كل يروي النص من وجهة نظره وبما يخدم مصلحته. المجتمعات الشفهية لا يوجد لديها مفهوم الموضوعية والحياد والفصل بين ذات المتكلم والموضوع؛ أي أنه لا توجد معلومات محايدة أو معرفة بحتة للمعرفة ذاتها. هذه المفاهيم لا توجد إلا في المجتمعات التي تأصلت فيها الممارسة الكتابية. أما الحديث الشفهي فإنه تعبير عن ذات المتكلم وعن مشاعره ومصالحه وأهوائه ونظرته إلى العالم من حوله. المتحدث الشفهي حينما يروي حادثة فإنه لا يدلي بشهادة بقدر ما يعبر عن موقف ورؤية شخصية نابعة من خلفيته الثقافية والاجتماعية. لذلك فإن الحادثة الواحدة تختلف روايتها من شخص لآخر حسب اختلاف المشارب والأهواء وحسب اختلاف التوجهات السياسية أو الدينية أو غير ذلك من الاعتبارات الأخلاقية والمصلحية. وغالبية السوالف تحكي أحداث صراعات بين قوى متضادة، وهنا يصبح الخلاف واضحا بين الروايات المستقاة من هذا الجانب وتلك المنقولة من ذاك الجانب. وكلما اختلفت الأهواء وتباعدت المصالح واحتدت التحيزات بين الرواة، كلما زاد الاختلاف بين الروايات الذي قد يصل إلى حد التعارض، ربما ليس في الأحداث ذاتها وإنما في التفسيرات التي تحيط بهذه الأحداث والدوافع ورائها والنتائج المترتبة عليها، وربما تجاهل أحد الفريقين بعض الأحداث التي ليست في صالحه والتي يؤكد عليها الفريق الآخر ليورد بدلا منها أحداثا أخرى وقعت فعلا لكنها تصب في صالحه. فكل واحد من الفريقين يحاول أن يروي الأحداث ويفسرها بما يخدم مصلحته. ولذلك فإن تحديد هوية الراوي وانتمائاته أمر ضروري لتقييم مصداقية روايته.

وهناك جنس آخر من الرواة لا تهمه الناحية التاريخية ولا يسعى للتحقق من صحة الأحداث ليس لأنه يتعمد التدليس ولكن لأن ما يهمه فقط هو الدرس الأخلاقي المجرد الذي يمكن استخلاصه من السالفة، بصرف النظر عن وقائعها وشخوصها، كما حدث مثلا بالنسبة لقصة المهادي مع جاره السبيعي أو ما حدث لقصة ماجد الحثربي مع مفوز التجغيف حيث انطمست حقائق التاريخ لتحل محلها العظة والدروس الأخلاقية في الشهامة والمروءة والوفاء والأمانة والعفة وإكرام الجار والدخيل. أما الرواة الترفيهيون فإنهم عادة لا يهتمون بدقة الرواية وصحة الخبر والإسناد، ما يهمهم هو الشكل الأدبي للسالفة وقصيدتها. وقد جرى على هذا المنوال المؤلفون في العصور الأخيرة الذين يطمحون لرواج مؤلفاتهم والكسب من ورائها فغلبوا الجانب الأدبي الترفيهي على الجانب التوثيقي، بل إن البعض قد يتعمد إضافة بعض البهارات التي تملّح السالفه.

 

<< الصفحة السابقة  |  محاضرات عامة  |   الصفحة التالية >>