الصفحة الرئيسية | السيرة الذاتية مراجعات أعمال د. الصويان الأعمال المنشورة | الصحراء العربية: شعرها وثقافتها | أساطير ومرويات شفهية من الجزيرة العربية
 الثقافة التقليدية مقالات صحفية في الأدب الشفهي مقالات صحفية بالعربية محاضرات عامة معرض صور تسجيلات صوتية موسيقى تقليدية
ديواني
| كتب في الموروث الشعبي مخطوطات الشعر النبطي أعمال قيد النشر لقاء تلفزيوني مع محطة العربية مواقع ذات علاقة العنوان

Home | Curriculum Vita | Reviews | Publications | Arabian Desert Poetry | Legends & Oral Narratives  
Traditional Culture
|
Articles on Oral Literature | Articles in SaudiDebate | Public Lectures |  Photo Gallery | Sound Recordings
Traditional Music
| Anthology | Folklore Books | Manuscripts | Work in Progress | TV Interview | Relevent Links | Contact

 

الشفاهي والكتابي في اللغة والأدب
سعد الصويان

من وجهة النظر المنهجية، لا يجوز لنا أن نطبق على الأدب الشفاهي معايير النقد المدرسية لأنها نمت وترعرعت أساساً من خلال دراسة الأدب المكتوب وتقويمه. وكثيراً ما نقع في مفارقة تاريخية، عن قصد أو عن غير قصد، حينما نحكم على الأدب الشفاهي من منطلقات الأدب المكتوب. وغالباً ما تتحول المقارنة إلى مفاضلة بينهما متناسين أن كلاً منهما وليد ظروف اجتماعية متميزة ونتاج بيئة حضارية مختلفة.

سياق الأداء والتلقي في الأدب الشفاهي محكوم بعلاقة ديناميكية بين المؤدي والجمهور يستطيع المؤدي من خلالها أن يبرز المعالم الجمالية للنص من موسيقى وإيقاع وأن يضيف جمال الأداء إلى جمال النص. النص الشفاهي على لسان المؤدي أشبه بالأداء المسرحي، إذ أنه يكتسب حركة وأبعاداً إيحائية تساعد على فهمه وتذوقه. ولكن حالما يُنقل إلى كلمات مكتوبة فإنه يفقد الكثير من سماته الجمالية وخصائصه الفنية ويتحول إلى نص خامد لا حياة فيه. هذا يعود إلى أن الحميمية والكثير من الخصائص التي تصاحب الأداء الشفاهي والتي تساعد على فهم النص وتذوقه لا يمكن إبرازها خطيا، مثل نبرات الصوت وتعابير الوجه وحركات اليدين وغير ذلك من الإيماءات التي لا تترك أثراً على الورق. التدوين بتر للنص الشفاهي وانتزاع له من سياقه الأدائي وإيداعه في سياق مفتعل وغريب.

في النص الشفاهي يقوم سياق الأداء و"حضور" المؤدي دورا مهما في توصيل المعنى للمستمعين. الإيماءات والحركات وتعابير الوجه واللغة الجسدية وتنغيمات الصوت ومجمل الظروف المصاحبة للأداء الشفاهي الذي يتم وجها لوجه بين المبدع والمتلقي تسهّل المهمة على الإثنين، مهمة التوضيح وإزالة الغموض ومهمة الفهم والمتابعة. ويمكن للمؤدي أن يكيف النص بما يتمشى مع ميول المتلقين ومستويات إدراكهم. لكن الكتابة التي تتم بمعزل عن المتلقي تجعل المهمة صعبة. مهمة إيصال المعنى في النص المكتوب تقع كلية على كلمات النص مجردا من شخصية المبدع وسياق الأداء. النص المكتوب شيء قائم بذاته ومستقل عن كاتبه. لذا فإن على الكاتب أن يتخيل كل المعاني الممكنة لكل كلمة يكتبها ويختار منها المعنى الذي يقصده ويضعه في السياق اللغوي المناسب الذي يزيل عنه اللبس والغموض، وعليه أيضا أن يضع في حسبانه كل القراء المحتملين لعمله على اختلاف أطيافهم ويكتب بطريقة تتناسب مع أذواقهم ومستوياتهم ويمكن لهم جميعا أن يفهموه كنص مستقل الوجود ومنتزع من السياق الأدائي الحي.

الأدب المكتوب فردي في إنتاجه واستهلاكه حيث أن المؤلف منبت عن القارىء لا تربطه به صلة، وهدف الكاتب ليس بناء علاقة مع المتلقي وإنما توصيل رسالة لقارئ مجهول. أما الأداء الشفاهي فإنه يرتكز على إيجاد علاقة مباشرة وارتباط حميمي بين المؤدي والمتلقي مما يقود هذا الأخير إلى الاستسلام لمؤثرات الأداء واندماجه شعوريا مع الجو العام وتمثله لأحداث النص وتقمصه لشخصياته بدلا من النظر إليه نظرة حيادية نقدية. الكتابة تفصل المبدع عن عمله وتنتزع النص من ظروف الأداء وملابسات السياق الإبداعي وتضع مسافة بين الكاتب وما يكتب وتفصله عنه كلية لدرجة تمكن القارئ الذي يقرأ نصا لا يعرف من كتبه أن يتفحص ذلك النص بتجرد بعيدا عن تأثيرات حضور المبدع وطغيان شخصيته عليه والنظر إلى العمل بحيادية، مما ينمّي لديه روح النقد ويشحذ ملكاته التحليلية.

تختلف الكتابة عن الأداء الشفاهي في أنها تمنح القدرة على التروي والتنقيح. الكاتب يكتب بمعزل عن جمهوره وباستطاعته أن يعود لما كتبه يراجعه ويغير فيه ويعدل كيف يشاء حتى يخرجه بالصورة النهائية التي يرضى عنها قبل النشر. كذلك القارىء يقرأ وحده بصمت بعيداً عن المؤلف، وبإمكانه أن يقرأ بسرعة أو ببطء وأن يتوقف أنّا شاء. وإذا فقد تسلسل الأحداث فإن باستطاعته إعادة الكرة ليبدأ من جديد من حيثما يريد.

أما في الأدب الشفاهي فلا المبدع ولا المتلقي يتمتعان بهذا القدر من التروي المتاح للكاتب والقارىء لأن عمليات التأليف والأداء والتلقي في السياق الشفاهي عمليات آنية ومباشرة. فالمؤديً ينقل إنتاجه مباشرة إلى الجمهور حيث هناك صلة وثيقة وتفاعل مستمر بينه وبينهم تصل أحياناً إلى درجة المشاركة الفعلية في التأليف والأداء. وهناك حالات تكون فيها لحظة الأداء هي لحظة الإبداع كما في إنشاد السيرة الشعبية أو في شعر القلطة أو المراد. ارتجال النص الشفاهي بالنسبة للمؤدي وسرعة زواله وتلاشيه بالنسبة للمتلقي تجعل من التكرار والإطناب، والتي تعد من عيوب الأدب المكتوب، أمورا ضرورية في الأدب الشفاهي. قد يوظف التكرار لتأكيد المعنى أو إزالة الغموض، ولكنه في كثير من الأحيان ما هو إلا مجرد وسيلة لالتقاط النفس وكسب الوقت وإعطاء الراوي فرصة للتفكير فيما سيأتي، وكذلك إعطاء الفرصة للمستمعين كي يتابعوا أحداث الأداء المتسارع لأن المستمع في الأداء الشفهي، بخلاف القارئ، لا يستطيع العودة إلى بداية النص لاسترجاع شيء فاته. وبدلا من التوقف والتردد أثناء الأداء. يلجأ المؤدي إلى تكرار ما سبق أن قاله أو إعادة صياغته بشكل آخر أو ترديد صيغ جاهزة ليعطي نفسه حيزا من الوقت، وإن كان ضئيلا، لكنه يكفيه للبحث سريعا عن الكلمات المناسبة والشكل المناسب للعبارة التالية. كما يستفيد المتلقي من التكرار في إعطاء نفسه مهلة لالتقاط الأنفاس وإراحة الذهن بدلا من التركيز الشديد الذي يصعب تحمله والإبقاء عليه لفترة طويلة. التكرار والإطناب يمنح المتلقي الفرصة لمتابعة الأداء دون انقطاع في التلقي أو خلل في الفهم.

تلعب الذاكرة في المجتمعات الشفاهية دوراً رئيسياً في حفظ وترويج الإنتاج الأدبي. هذا لا يعني أن ذاكرة الإنسان الأمي أقوى وأنه أقدر على الحفظ من الإنسان المتعلم إلا بقدر ما يسمح به التمرين والتعود. المقصود هو أن المجتمعات الشفاهية تصوغ آدابها ومعارفها بأسلوب يسهل تذكره واسترجاعه. التكرار والإرداف والإتباع والتقابل والسجع في النثر والوزن والقافية في الشعر وغيرها من خصائص الأسلوب الشفاهي ليست مجرد عناصر جمالية أو آليات لتسهيل النظم وارتجاله، بل هي أيضا وسائل تساعد على الحفظ والتذكر. ولذا نجد المجتمعات الشفاهية تعتمد كثيراً على القوالب الجاهزة والصيغ التقليدية في التفكير والتعبير وتميل نحو النمطية في الوصف والتشخيص. وهي إلى المحسوسات أقرب منها إلى التجريد لأن المجرد يصعب حفظه وتذكره.

الأديب الشفاهي حينما يتحرك ضمن الأطر الثقافية والمعرفية وفي حدود المجالات الفنية التي ألفها جمهوره وتعود على التعامل معها فإنه يضمن نوعاً من التواصل والتجاوب بينه وبين المستمعين. مهمة الأديب الشفاهي ليست بالضرورة إبداع شيء جديد بقدر ما هي تكرار ما هو معروف وإعادة تشكيله وصياغته حتى لا يتلاشى من الذاكرة ويبقى ماثلاً في الذهن. من هنا نجد أن الأدب الشفاهي عموماً يتسم بالتكرار والترداد حتى تبقى المعلومات والمعارف التي يتضمنها محفوظة متداولة متوارثة، ولكي يكون هناك تراكم معرفي.

إحلال الكتابة محل الذاكرة كوساطة توصيل من الشاعر إلى المتلقي نتج عنه تحولات جذرية في بنية القصيدة بحيث أصبحت علاقة القصيدة الحديثة بالمعرفة علاقة تلميح وإيماء وليست علاقة تكرار ونقل مباشر. القصيدة الحديثة تحد للذهن لا للذاكرة. كما تحرر الشعر من القوالب الجاهزة ومن الوزن والقافية اللذين يحولان دون وحدة القصيدة وانسيابها الموضوعي، لكنهما في العصور الشفاهية كانا من وسائل التذكير التي تساعد على الحفظ والاستظهار. وهذا يقودنا إلى القول بأنه لو تتبعنا مسيرة الشعر العربي من العصر الجاهلي حتى وقتنا هذا لوجدنا أنه على الرغم من التجانس اللغوي فإن الشعر القديم يختلف عن الشعر الحديث في الشكل والمضمون وفي البنية والوظيفة. الشعر العربي القديم كان في الأصل شعراً شفهياً يتناقله الناس عن طريق الحفظ والسماع لا عن طريق القراءة والكتابة. لذا فإن من يطالبون مثلا أن يبقى الشعر العربي موزوناً مُقَفّى سهل الحفظ والارتجال كما كان في السابق تخفاهم حركة التاريخ وطبيعة التطور.

التحول من الأدب الشفاهي إلى الأدب المكتوب لا يتم بمجرد إجادة القراءة بل لا بد أن تشكل الكتابة قناة أساسية للتواصل وتأخذ القراءة حيزاً كبيراً في حياة المتلقي، ولا بد أن يتم ذلك على مستوى جماهيري عريض. والكتابة التي نتحدث عنها هنا لا يقصد بها مجرد التدوين وإنما توظيف الكتابة في العملية الإبداعية ذاتها وارتباطها بها إلى درجة أننا أصبحنا الآن نستخدم كلمتي "كاتب" و "مبدع" كما لو كانتا مترادفتين، كما في قولنا "فلان الكاتب المعروف". الشاعر الأمي الذي يستعين بشخص يعرف الكتابة ويطلب منه أن يخط له قصيدته ليس كاتباً تماماً كما أن الشخص الأمي الذي ينصت لقراءة جهرية ليس قارئاً. بل إن المبدع الذي يعرف القراءة والكتابة ولكنه لا يدون عمله الإبداعي إلا بعد أن يفرغ من إبداعه لا تنطبق عليه صفة "كاتب" بمعناها الدقيق ولا يختلف كثيرا عن المبدع الشفاهي.

نظرا لعلاقة الأدب بمحيطه الثقافي والاجتماعي فإن البحث في قضايا الاختلاف والائتلاف بين الأدب الشفاهي والأدب المكتوب وأوجه العلاقة والتداخل بينهما يقود بالضرورة إلى البحث في طبيعة الثقافات الشفاهية والتركيبة الذهنية والسيكولوجية للإنسان الأمي ورؤيته الفنية والجمالية وطريقته في تنظيم معارفه وتخزينها واسترجاعها عند الحاجة وكيفية اختلاف المجتمعات الأمية في ذلك عن المجتمعات الكتابية.

أصل الكلمات ألفاظ منطوقة، أصوات حادثة، لكن الكتابة تنسينا ذلك أحيانا لدرجة أننا لم نعد قادرين على تذكر كلمة دون أن نتخيل تهجئة حروفها وشكلها الكتابي على الورق. إننا فقدنا القدرة على تمثل الطريقة التي يستطيع بها الشخص الأمي أن يتخيل الكلمات كأصوات فقط دون أن ترتبط في ذهنه بتهجئتها وشكلها المرئي، المكتوب. الشخص الأمي لا يرد على باله أن السلسة اللفظية تتألف من كلمات يمكن فصلها عن بعضها البعض وأن الكلمات هي أيضا تتألف من "حروف" يمكن فصلها وإعادة مزجها لنؤلف منها كلمات أخرى. ولتوضيح الفرق في التصور بين الأمي والمتعلم تخيل أبيات قصيدة مكتوبة وعلاقة الأبيات بعضها ببعض. إننا نشاهد الأبيات متراصفة على الورق كل بيت فوق الآخر بحيث يكون البيت الأول هو الأعلى والأخير هو الأسفل. ولكن هل يتصورها الرجل الأمي الذي لا يعرف شيئا عن القراءة والكتابة بهذا الشكل؟ هل يراها مكدسة بعضها فوق بعض، أم مترابطة جنبا إلى جنب واحدا مع الآخر مثل الحلقات في سلسلة ممتدة؟ هنالك مفردات ومصطلحات فنية تتعلق بعملية النظم يستخدمها الشعراء الأميون تشير إلى أنهم يتصورون الأبيات متراصفة واحدا فوق الآخر مثل تراصف الطوب في البنيان، وربما أن رتابة الوزن والقافية خلقت لديهم هذا التصور. ولكن تصورهم عَكْس تصورنا، فهم يرون أن البيت الأول هو الأسفل، حسب الأقدمية، تتلوه بقية الأبيات واحدا فوق الآخر حسب تسلسل التلفظ بها حتى البيت الأخير وهو الأعلى، ولذلك نجدهم يطلقون على البيت الأول ساس أو مشد، أي الأساس الذي تشيد عليه بقية الأبيات أو الشداد الذي تركب عليه.

الكلام الملفوظ عبارة عن سلسلة من الأصوات المتتابعة يتلو بعضها بعضا عبر شريط زمني دائم الحركة. هذا التسلسل الزمني يفرض نوعاً من الحدود والقيود على اللغة لأن الزمن لا يتقهقر وما فات في شريط الزمن المتحرك لا يمكن إرجاعه. كما أنه يستحيل الكلام بأكثر من صوت واحد في آن واحد لأنه لا بد للأصوات والكلمات أن يتلو بعضها بعضا كحبات العقد، الواحدة تلو الأخرى. ولا أحد يستطيع أصلاً أن يصيخ السمع إلى أكثر من مصدر كلامي واحد في الآن ذاته والزيادة على ذلك نسميها ضوضاء وضجيجاً لا يفهم. الكتابة تحول هذا الشريط الزمني المتسلسل عبر الزمان إلى شريط بصري متسلسل عبر المكان الذي هو صفحة المخطوط أو الكتاب.

يصف شاعر الإغريق هوميروس الكلمات بأنها مجنحة لأنها تطير في الهواء حال التلفظ بها، لكن الكتابة قصت أجنحة الكلمات وثبّتتها على الورق، أو كما يقول العرب "قيّدَتْها". مع ظهور الكتابة بدأ الإنسان، ولأول مرة، يربط اللغة بحاسة البصر. هذا التحول من حاسة السمع إلى حاسة البصر يعني تحول الكلام من حدث زمني سريع الانفلات والزوال والتلاشي إلى شيء ثابت مستقر في مكان يمكن الرجوع إليه متى ما نشاء. النص الملفوظ شريط سمعي يمر عبر الزمان، بينما النص المكتوب شريط بصري يمر عبر المكان. بإمكانك أن تتوقف وتثبت نظرك على كلمة في هذا الشريط البصري وتتمعن فيها دون أن يؤثر ذلك شيئا على الكتابة المقيدة على سطح الورقة. لكنك لا تستطيع أن توقف الشريط السمعي لتتمعن في لفظة من الألفاظ لأن سكون هذا الشريط السمعي يعني توقف تحققه وزوال وجوده، التوقف عن الكلام يعني السكوت. يمكنك إيقاف شريط سينمائي لتثبت نظرك على شريحة منه لكنك لو أوقفت شريطا سمعيا مسجلا فلن تسمع شيئا. التحقق والتلاشي مرتبطان أشد الارتباط في حاسة السمع، فأنت حالما تبدأ التلفظ بالكلمة تحكم عليها بالزوال بمجرد نطقها. أنت تستطيع أن تُبصر الكلمة المكتوبة، مهما كانت طويلة، دفعة واحدة كما لو كانت كتلة واحدة، لكنك لا تستطيع نطقها، مهما كانت قصيرة، دفعة واحدة، فلا بد من التلفظ بها مقطعا مقطعا، ولا تنتقل إلى مقطع إلا وقد زال الذي قبله وتلاشى من الوجود، إنه أشبه شيء بالكتابة على الماء.

وجود النص الشفاهي وجود آني يرتبط دائما بقائله وبلحظة الأداء العابرة ويزول بانتهائها دون أن يترك أثرا يدل عليه. وعلى هذا الأساس يعتمد استمرار وجود النص الشفاهي وبقائه على استمرار حدوثه، تكرار الأداء وحضور المؤدي. النص الشفاهي حدث عابر أما النص التحريري فهو شيء راسخ ساكن في الورق. الكتابة تمنح النص وجودا ماديا ثابتا ومستقرا ومستقلا عن المبدع والمؤدي، وجودا سرمديا لا يتلاشى ولا ينتهي بموت المؤدي. يتحقق وجود النص المكتوب ماديا بتسطيره على الورق أما وجود النص الشفاهي فيبقى إمكانية كامنة في الذهن ولا يتحقق ماديا إلا حينما يتشكل أصواتا وألفاظا على لسان المؤدي لحظة حدوث الأداء. الكتابة تسلخ النص من المؤدي والمتلقي وتُشَيّئُه، أي تمنحه وجودا مستقلا وتجعل منه شيئا ماديا. والطباعة كرست تشييء الكلمات. قبل اختراع الطباعة لم يكن لحروف الكلمات وجود فعلي قبل خطها يدويا على الورق، لكن الطباعة أدت إلى سبك حروف من المعدن (أى أشياء) موجودة دائما وجاهزة للاستعمال الطباعي في أي وقت. الطباعة توجِد الكلمات من أشياء معدة مسبقا (الحروف المطبعية) مثل الطوب الجاهز المستخدم في البناء. إنها تثبت الكلمات على آلات ثم تطبعها منضدة مكانيا ومكررة بنفس الترتيب على آلاف الصفحات. هذا أتاح إمكانية عمل فهارس نستطيع بواسطتها أن نحدد المكان لأي كلمة نبحث عنها في الكتاب ونجدها مثلما نجد أي شيء نضعه على رف في المستودع أو أي ملف في الأرشيف.

المفردة المكتوبة حال تدوينها على الورق تصبح شيئا مستقلا قائما بذاته وتفقد صلتها بقائلها الذي ربما يكون قد فارق الحياة. أما اللفظ فإنه مرتبط ارتباطا عضويا بشخصية المتلفظ، بنبرة صوته ونغمته وطريقة نطقه، إنه حدث، أداء حي لمؤدٍّ حي. لذلك فإن للكلمة المنطوقة التي تنبع من أعماق كائن حي فاعلية وحيوية تفوق فاعلية الكلمة المكتوبة التي لا حياة فيها. وتكثر عندنا الأمثال التي تؤكد على ذلك، مثل: من فم الكَحْلا أحْلى، من الراس ولا القرطاس. ارتباط اللفظ بالمتلفّظ في تشكيل البنية الفكرية لدى الرجل الأمي يقابله ربط اللفظ بما يشير إليه، بحيث أن مجرد التلفظ بالدال يستدعي حضور المدلول، أو أن مجرد الكلام يغني عن الفعل أو يقوم مقامه. ولذلك نجدهم يتحاشون التلفظ بأسماء الأمراض الخطيرة والكائنات المخيفة والخفية. آليات التفكير الحسي والتفكير التقمصي والتموضعي تغلب على ذهنية الإنسان الأمي مما يجعل من غير السهل عليه التعامل مع المفردات بحيادية كما تعرّفها المعاجم كمفاهيم قائمة بذاتها معزولة عن صورها الحسية ووظائفها واستخداماتها العملية ومجردة من سياقاتها التي توجد فيها في الحياة اليومية. يصعب عليه مثلا تصور الأعداد الحسابية مجردة من أشياء حسية محددة ترتبط بها؛ أربعة خرفان أو عشر دجاجات، وليس مجرد أربعة أو عشرة هكذا بدون الإشارة إلى أشياء عينية ملموسة.

المعارف الشفاهية معارف تكديسية تراكمية تقوم على حشد المعلومات وتجميعها لكنها تفتقر إلى وسائل المزج والدمج وآليات الربط والتركيب وإلى أدوات التأمل التي توفرها الكتابة والتي تمنح القدرة على الاستنباط والاستقراء والاستنتاج والتعميم وتقود إلى صقل ملكة النقد والتحليل وإلى نشأة العلوم. في الثقافة الشفاهية يختزن كل فرد ما يعرفه في صدره ولا سبيل إلى تبليغه للآخرين إلا بالمشافهة وإذا مات مات معه علمه حيث لا سبيل إلى تقييده وضمان بقائه. لذا تبقى هذه المعارف الفردية المخزونة في الصدور مبعثرة وفي حالة انفصال دائم عن بعضها البعض، ومهما بلغ الفرد من العلم فإنه لا يستطيع الإحاطة بكل ما هو معلوم لدى الآخرين من أبناء جيله. أما في الثقافة الكتابية فإنه يمكن تدوين المعارف من كل المصادر في كتب تودع مجتمعة ومفهرسة في مكتبات وأرشيفات يمكن لأي من كان أن يطّلع عليها وتبقى إلى الأبد وكل جيل يضيف إليها ما يستجد لديه. بفضل الكتابة تراكمت المعارف الدقيقة الموثوقة التي مكنت من بلورة التحليل السببي المحايد والتصنيف التجريدي الدقيق وما يقود إليه ذلك من التساؤل والتعطش إلى المعرفة لذاتها. هذا لا يعني أن الإنسان الأمي يفتقر إلى الحكمة والعقل والمنطق لكن هناك عمليات ذهنية ومنطقية لا تتحقق إلا بالكتابة مثل كون الطيران لا يتحقق إلا بالأجنحة.

اللغة والكتابة كلاهما خاصيتان إنسانيتان يتميز بهما الإنسان عن بقية الكائنات، لكن اللغة خاصية بيولوجية وجدت منذ وجد الإنسان بينما الكتابة خاصية ثقافية اكتسبها الإنسان في وقت متأخر من تاريخ وجوده على الأرض ولا تزال بعض الجماعات تفتقر للكتابة. لا يقل عمر الإنسان العاقل على هذه الأرض عن خمسين ألف سنة لكنه لم يخترع الكتابة إلا في فترة متأخرة جداً من هذا التاريخ الطويل ومنذ مدة وجيزة لا تزيد عن أربعة آلاف سنة على يد السومريين. تكلم الجنس البشري خلال تاريخه الطويل على هذه الأرض عشرات الآلاف من اللغات التي اندثر معظمها دون أن تترك أثرا لأنها لم تعرف الكتابة. ولكي ندرك التغيرات الجذرية التي أحدثتها الكتابة على المجتمع الإنساني علينا أن نتذكر أنه لولا الكتابة لاستحال قيام الدولة العصرية بمساحتها الجغرافية الشاسعة وعدد سكانها الكبير وتنظيماتها المعقدة وأجهزتها البيروقراطية الضخمة وقنوات اتصالاتها المكثفة وسجلاتها المدنية وأرشيفاتها وتعاملاتها الاقتصادية. كانت دولة المدينة التي تغطي رقعة جغرافية صغيرة لا يتجاوز عدد سكانها بضعة آلاف هي أكبر كيان سياسي ممكن التحقيق في مراحل ما قبل الكتابة.

الكتابة مهدت الطريق لظهور العلوم العصرية والتكنولوجيا ومختلف الإنجازات الحضارية التي يتوقف عليها تطور الجنس البشري. علوم الفلك والرياضيات والعلوم الطبيعية لم يكن من الممكن لها أن تتحقق وتنمو وتتطور بدون الكتابة. هناك عمليات رياضية أبسطها القسمة والضرب وعمليات منطقية مثل القياس والاستدلال وعمليات ذهنية مثل الاستنباط والاستقراء والتجريد يستحيل أصلا إجراؤها بدون الاستعانة بالكتابة. كما أن الملاحظة والرصد والمسح والتوثيق وعمليات الإحصاء وجمع المعلومات، التي هي أهم أدوات البحث العلمي، لا يمكن تحقيقها بدون الكتابة. فالبابليون مثلا تمكنوا بفضل ملاحظتهم وتسجيلهم لحركات الكواكب والأجرام السماوية لمئات السنين والمقارنة فيما بينها أن يكتشفوا عبر الأجيال ما تنطوي عليه من نظام مما مكنهم من التنبؤ بالكسوف.

تسطير الكلام على الورق يوحي بقدر من الترتيب والتنظيم وغيرها من مفاهيم الضبط والربط التي تتعلق بتجاربنا الحسية المرتبطة بالحيز المكاني كالإبصار والحركة. ترتيب الكلمات على الورق وصفها في سطور منضدة لا بد وأن تكون له انعكاسات على تنظيم الأفكار التي تعبر عنها الكلمات، كما أنه لا بد وأن يترك آثاراً هائلة على ملكات الإنسان الإدراكية وعلى وسائله في تخزين وتنظيم واسترجاع مستودعاته الذهنية.

الثقافة في نهاية المطاف مجموعة العمليات التواصلية، ولذا فإن الاختلاف في وسائل الاتصال المعلوماتي غالبا له نفس الأهمية التي لأساليب الإنتاج المعلوماتي، لأنها تشمل تطوير سبل التخزين والتحليل والتوليد للمعرفة الإنسانية، إضافة إلى تحوير العلاقات بين الأفراد المعنيين. التدوين، خصوصا الكتابة الأبجدية، فسح المجال لإمكانية تفحص الكلام بشكل مغاير وذلك بإعطاء اللفظ المنطوق شكلا ثابتا. هذا التفحص سمح بتوسيع آفاق الممارسات النقدية، ومن ثم نمو العقلانية والتساؤل والمنطق. وهذا مما أدى إلى دفع عجلة النقد، لأن الكتابة وضعت الكلام أمام نظر الإنسان بطريقة مختلفة، كما أنها وسعت في الوقت نفسه من إمكانية التراكم المعرفي، خصوصا المعرفة ذات الطابع المجرد، ذلك لأنها غيرت طبيعة الاتصال لتتخطى العلاقة الشخصية المباشرة، مثلما غيرت نظم تخزين المعلومات. بهذه الطريقة أصبح هناك مجالا أرحب من "الأفكار" متاحا لجمهور القراء. وهكذا لم تعد مشكلة التخزين في الذاكرة هي المسيطرة على العمليات الذهنية عند الإنسان. تحرر العقل الإنساني من هذا العبء ليتفرغ لتحليل "النص" المقيّد. وهذه عملية مكنت الفرد من أن يفصل بين شخصه وإبداعه ليتفحصه بشكل موضوعي مجرد وعقلاني. الكتابة أتاحت إمكانية مراجعة المعلومات التي أنتجها البشر خلال فترة ممتدة من الزمن.

الكتابة نظام رمزي خارجي يتدخل في تنظيم المعالجات الفكرية ويؤثر على بنية الذاكرة وطرق التصنيف وحل المسائل والمعضلات. الكتابة ليست مجرد وسيلة عالية الكفاءة لتسجيل المعلومات وحفظها وتذكرها، بل هي أيضا وسيلة ناجعة لتنظيم المعرفة وترتيبها وتصنيفها والتعامل معها بطريقة تساعد على تحليلها ومعالجتها وإخضاعها لمختلف العمليات المنطقية والنقدية. تدوين النصوص وتثبيتها بواسطة الكتابة ثم وضعها جنبا إلى جنب والنظر إليها بالتزامن، بدلا من سماعها بالتتالي، والمقارنة فيما بينها يساعد على اكتشاف ما فيها من غموض وتناقضات وأخطاء وتضارب وكذلك ما فيها من انتظام واطراد واتساق مما يمكن صياغته على شكل قواعد أو قوانين علمية. اكتشاف قواعد اللغة من نحو وصرف غير ممكنة بدون تقييد الألفاظ والعبارات وتثبيتها كتابيا بحيث يمكن المقارنة فيما بينها والنظر إليها بالتزامن، بدلا من سماعها بالتتالي الذي هو سمة الكلام الشفاهي. كما أن تثبيت الكتابة للروايات المتعددة للقصيدة الواحدة أو الحادثة التاريخية هو الذي يسهل علينا اكتشاف ما بين هذه الروايات المختلفة من تضارب وتباين واختلافات تصعب ملاحظتها في ظل الرواية الشفاهية الشاردة. ومن هنا نجد أن اكتشاف قواعد اللغة العربية وأوزان الشعر العربي، وغير ذلك من الإنجازات العلمية في مجالات اللغة والأدب لم تأت إلا بعد تفشي الكتابة في القرن الثاني الهجري، وفي هذه الفترة ذاتها أيضا بدأت الاختلافات في رواية القصائد الجاهلية تشكل معضلة تسترعي الانتباه وتثير التساؤلات والشكوك. وقبل ذلك عند الإغريق نجد أن ظهور الكتابة ارتبط بظهور علم التاريخ على يد هيرودوتس وعلم القياس المنطقي على يد أرسطو.

غياب الكتابة غيّب الحس التاريخي عند الرجل الأمي وجعله يعيش دائما في الحاضر. أحداث الماضي البعيد التي لم تعد ذات صلة بالحاضر تنتفي الحاجة لإعادة الحديث عنها وتكرارها فتتبخر من الذاكرة أو تُحوّر وتحدّث بشكل تلقائي وعفوي وتدريجي غير محسوس، وربما غير مقصود، في انتقالها شفاهيا من راو لآخر ومن جيل لجيل مما يفقدها هويتها الأولى لتصبح متوافقة مع متطلبات كل عصر. الرجل المتعلم يعرف الكثير من خلال قراءاته واطلاعه على المصادر المكتوبة عن التاريخ العربي منذ عصور ما قبل الإسلام حتى الوقت الحاضر، على خلاف الرجل الأمي أو البدوي في الصحراء الذي لا يعرف من التاريخ إلا نتفا من الروايات الشفاهية المشوشة. غَمْر الماضي بمقتضيات الحاضر ومتطلباته يجعل الإنسان الأمي ينظر إلى الأمس دائما بعيون اليوم دون أن يدرك حقيقة التغير والتطور أو يعي مسيرة الزمن وعمق التاريخ فيركن إلى الاعتقاد بأن العالم كان وما زال وسيظل كما هو. فالأنساب والأصول والتشكيلات القبلية القديمة تُنسى ويتصرف أبناء القبيلة كما لو كان التكوين القبلي الحاضر أزليا منذ بداية الخليقة. الشعوب الشفاهية تعكس التاريخ وترويه بالمقلوب بحيث تبدأ من الحاضر باتجاه الماضي، تماما مثل تتبع النسب من الأحياء نكوصا إلى الأسلاف.

حيث أن أحداث التاريخ والأنساب ومختلف المعارف والمعلومات في المجتمع الأمي يتم تداولها شفهيا، فلا بد من صقلها وصياغتها بلغة أدبية وأسلوب فني حتى يسهل حفظها ويتعطش الناس لسماعها ولا يملون من تداولها وتكرارها كي لا تنمحي من الذاكرة الجماعية. في عصور المشافهة كان لا غنى للناس عن الذاكرة والحفظ. القاص الشفهي في سرده للأحداث دائما يتنازعه عاملان؛ فهو من ناحية يحكي وقائع تاريخية، ولكنه من الناحية الأخرى، كي يستحوذ على انتباه الجمهور وكي يضمن بقاء الأحداث ماثلة في ذاكرة المجتمع الأمي، يضطر إلى سرد الأحداث بأسلوب فني مثير وممتع. في المجتمع الشفهي لا بد أن يصاغ التاريخ بأسلوب جذاب يشد الانتباه ويضمن تلهف الناس وتعطشهم إلى سماعه مرات ومرات وإلا امّحى وتلاشى من الذاكرة. لذا نجد الراوي الشفهي أو الشاعر الأمي مثلا يقوم في آن واحد بدور الأديب والمؤرخ والمعلم والفيلسوف، مما يؤدي إلى تداخل هذه المهام والوظائف وتمازج هذه الفنون والمعارف لدرجة يصعب معها فصلها وفرزها في مجالات أو تخصصات متمايزة، كما هو الحال في المجتمعات التي قطعت شأوا بعيدا في مجالات التعليم المدرسي وتأصلت فيها الكتابة ومفهوم التخصص المهني وتقسيم العمل.

طغيان متطلبات السرد وضرورات الحبكة القصصية على المصداقية التاريخية يقود بالتدريج إلى تداخل التاريخي مع الأسطوري والواقعي مع الخيالى والرمزي مع الحرفي. فلو نظـرنا مثلا إلى القصيدة الشفهية لوجدنا أنها غالبا ما تعبر عن وقائع التاريخ وأحداث المجتمع الإنساني بلغة رمزية وصور تقليدية واستعارات وصيغ نمطية متداولة يفرضها الأسلوب الشفهي وتقتضيها الصنعة الأدبية لكنها لا تعكس الواقع حرفيا. ومع تقادم العهد لربما جاء من يعوزه الفهم والإدراك أو من هو بعيد زمانيا أو مكانيا عن الأحداث التي تخلدها القصيدة وتلقّى هذه الصور والرموز وما تحتويه القصيدة من مبالغات ومجازات واستعارات وعناصر فنية وفهمها على أنها حقائق وقعت فعلا وحاول أن يفسرها تفسيرا حرفيا كما لو أنها انعكاس دقيق للواقع، كأن يفسروا المقدمة الطللية أو الغزلية على أنها تحكي قصة حب حقيقية عاشها الشاعر أو أن العذول الذي تتحدث عنه القصيدة أو الرسول هو شخص بعينه أو أن القتلى السبعة أو الأربعين هو عدد حقيقي. وكلما ابتعدنا زمانيا ومكانيا عن ظروف القصيدة أو السالفة وملابساتها كلما تراكمت الزيادات والمبالغات حتى يحل النسيج الأسطوري محل الواقع التاريخي.

آليات الرواية الشفهية بطبيعتها تنزع دوما نحو تحويل وقائع التاريخ إلى عناصر أدبية وحقائق الحياة إلى مشاهد تصويرية وهذا ما يقود إلى الانزلاق لاشعوريا من التفكير الواقعي إلى التفكير الأسطوري ومن السرد التاريخي إلى السرد الملحمي. وعلينا أن نتذكر دائما بأن الأسطوري مبني أصلا على التاريخي، لكن نظرا لانعدام أوعية حفظ المعلومات في المجتمعات الأمية الشفهية عدا الذاكرة فإن الذاكرة تفرض آلىاتها على شكل النص مما يسهل حفظه ويضمن بقاؤه قيد التداول عبر الأجيال. هذه الآلىات هي التي تعمل باستمرار على تحويل الوقائع التاريخية إلى موتيفات أسطورية من خلال صقل النص فنيا بما يتمشى مع متطلبات الحفظ الشفهي ولكن على حساب الواقعية والدقة التاريخية.

الكتابة تثبّت الروايات المختلفة للنص الواحد بحيث يمكن وضعها جنبا إلى جنب للنظر إليها بالتزامن -بدلا من سماعها بالتتالي- ومن ثم مقابلتها لاكتشاف ما فيها من تضارب واختلافات، بينما تظل الروايات الشفاهية المختزنة في الصدور مبعثرة وفي حالة انفصال دائم عن بعضها البعض مما يسهل عملية التحول من التاريخ إلى الأسطورة. عدم وجود نص موثق ومقيد بالكتابة ومثبت على الورق يمكن الرجوع إلىه للتأكد من الأصل كل ما دعت الحاجة يعني أنه لا توجد آلىة لتصحيح النص وإعادته إلى أصله كلما شذ عنه، وكلما ابتعدت الروايات عن الأصل تعددت واختلفت عن بعضها البعض. عدم التثبيت الكتابي لمختلف الروايات الشفهية للقصيدة أو السالفة يجعل من الصعب اكتشاف ما بين هذه الروايات من اختلافات وتناقضات. ثم إن الافتقار إلى الحس التاريخي والجغرافي يجعل الراوية الشفهي غير مدرك لما يقع فيه من تناقضات، كأن يتحدث عن أحداث متباعدة زمانيا كما لو أنها متزامنة وعن أماكن متباعدة كما لو أنها متجاورة لا تفصل بينها مسافات، أو أن يروي قصيدة لأحد بني هلال يتحدث فيها عن القهوة أو الشاي أو الدخان أو القتال بالبنادق، علما بأن هذ الأشياء لم تكن موجودة على زمن الهلاليين. لذلك فإنه ليس من المستغرب أن نجد الرواة الشعبيين يوردون قصصا وقصائد باللهجة العامية وينسبونها إلى شخصيات من العصر الجاهلي يفترض أنها كانت تتكلم بالفصحى مثل عنترة أو المهلهل أو كليب أو جساس.

حينما نسمع النص يؤدى شفهيا مرة أخرى من الراوية نفسه أو من راوية آخر فإنه يصعب التحقق مما إذا كانت هذا الرواية الثانية مطابقة للأولى أم لا، ما لم نقم بتثبيت الروايات، إما عن طريق الكتابة أو التسجيل الصوتي، لمقابلتها مع بعضها. عدم إمكانية تثبيت الأصل بالتدوين وتقييده بالكتابة حال تحقّقه وتخلّقه يجعل النص الشفهي مرنا ودائم التشكل، إذ لايوجد ما يمنع من تراكم التغيرات التي تطرأ عليه كلما ابتعد مكانيا عن موطنه الأصلي وزمانيا عن الأحداث الباعثة له، ويبتعد شيئا فشيئا عن الواقع ليحلق في عالم الأسطورة. ومع مرور الوقت وانتشار السالفة وابتعادها عن موطنها الوصلي تتضاءل قيمتها التاريخية أمام قيمتها الأدبية وما تتضمنه من رسالة أخلاقية. التحول الأسطوري هو الذي يضمن بقاء الحكاية وانتشارها لأن الأسطورة تخرجها من الخصوصية التاريخية إلى العمومية والتجريد بحيث يجد فيها الجميع تعبيرا عن قناعاتهم وتطلعاتهم وتكريسا للقيم التي يؤمنون بها.

 

<< الصفحة السابقة  |  محاضرات عامة  |   الصفحة التالية >>