Please enable JavaScript in your browser preferences and then Reload this page!!!

الصفحة الرئيسية | السيرة الذاتية مراجعات أعمال د. الصويان الأعمال المنشورة | الصحراء العربية: شعرها وثقافتها | أساطير ومرويات شفهية من الجزيرة العربية
 الثقافة التقليدية مقالات صحفية في الأدب الشفهي مقالات صحفية بالعربية محاضرات عامة معرض صور تسجيلات صوتية موسيقى تقليدية
ديواني
| كتب في الموروث الشعبي مخطوطات الشعر النبطي أعمال قيد النشر لقاء تلفزيوني مع محطة العربية مواقع ذات علاقة العنوان

Home | Curriculum Vita | Reviews | Publications | Arabian Desert Poetry | Legends & Oral Narratives  
Traditional Culture
|
Articles on Oral Literature | Articles in SaudiDebate | Public Lectures |  Photo Gallery | Sound Recordings
Traditional Music
| Anthology | Folklore Books | Manuscripts | Work in Progress | TV Interview | Relevent Links | Contact

من اقتصاد المعاش إلى اقتصاد السوق

سعد الصويان

النسق الاقتصادي هو مجموع الوسائل التي يوظفها الإنسان في استخلاص موارده المحدودة وتخصيصها لإرضاء رغباته اللامحدودة، وتشمل هذه الوسائل عمليات الإنتاج والتوزيع والإستهلاك لكافة السلع والخدمات الضرورية لتلبية مختلف الحاجات الإنسانية. فالبشر أينما كانوا بحاجة إلى نظام يتبعونه في تقسيم العمل وتوزيع المهام فيما بينهم وفي توزيع الأرض وأدوات الإنتاج وفي تبادل ما ينتجونه ويحصلون عليه من الموارد والسلع. وسلوك الإنسان الإقتصادي يحدده عاملان هما العامل البيولوجي الذي يتمثل في حاجته إلى الغذاء ووسائل الراحة، والناس في ذلك متساوون ولا يختلفون كثيرا عن بقية الكائنات الحية. والعامل الآخر هو العامل الثقافي الذي يتفرد به الإنسان من بين الكائنات الحية والذي يختلف من مجتمع إلى آخر ويتمثل أولا في الطرق التي يعمد إليها لاستخلاص الغذاء وضرورات الحياة الأخرى وثانيا في الحاجات والرغبات التي تنشأ من كون الإنسان كائن اجتماعي يمتلك ثقافة، والتي تختلف باختلاف القيم والعادات والتقاليد والأذواق.

ويقدم بول بوهانان Paul Bohannan تعريفا للاقتصاد من وجهة النظر الأنثروبولوجية يقول بأنه ناتج التفاعل بين مكونات البيئة التي تستخلصها الثقافة على شكل موارد من ناحية وبين مظاهر الثقافة التي تشكل التكنولوجيا ويتم توظيفها من خلال الجهد الإنساني لتحويل هذه الموارد إلى منتجات إقتصادية نافعة. والأنثروبولوجيون واعون لأهمية البعد المادي للسلع والخدمات التي يتم إنتاجها وتوزيعها من خلال مختلف العمليات الاقتصادية، لكن ما يهمهم بالدرجة الأولى هو طبيعة وسمات العلاقات الاجتماعية والتعاملات الإنسانية التي تتمخض عنها وتتوقف عليها عمليات الإنتاج والتوزيع.

رغبات الإنسان لا حدود لها وحاجاته المادية لا تنتهي، وهي متعددة ومتنوعة، وفي أحيان كثيرة متضاربة يصعب التوفيق فيما بينها. والسبيل الوحيد لقضاء هذه الحاجات، التي تنمو وتتعاظم مع استمرار التطور التقني والحضاري، هو ما تجود به ثروات البيئة الطبيعية على الإنسان من موارد، والتي مهما بدت لنا كمياتها وفيرة فإنها تبقى محدودة لا يمكن لها أن تفي بكل الحاجات لكل الناس في كل الأوقات. تلعب القيم الثقافية والمعتقدات دورا أساسيا في تحديد حاجات الإنسان والموارد اللازمة لإشباعها ودرجات الإشباع وطرقه ووسائله وسبله ومستلزماته. الحاجات الإنسانية والاستفادة من الثروات الطبيعية وتحويلها إلى موارد يُنتفع بها لإشباع هذه الحاجات الإنسانية كلها أمور مرهونة بمستوى التطور الحضاري والتقدم التقني الذي يمكن الإنسان من استخراج ثروات الطبيعة وتحويلها إلى موارد نافعة. التكنولوجيا هي التي تحدد بالدرجة الأولى ما يمكن اعتباره موارد طبيعية قابلة للاستهلاك. الأدوات البسيطة لن تمكن الإنسان من الاستفادة من الخامات والموارد الطبيعية مثل المعادن والبترول والفحم الحجري. لم تتحول هذه الثروات المختزنة في باطن الأرض إلى موارد اقتصادية إلا بعد أن قطع الإنسان شأوا بعيدا في المجال التكنولوجي مكنه من استخراجها واستغلالها لسد حاجاته. وبالمقابل هناك العديد من أنواع النباتات البرية وأجناس الحيوانات والزواحف والحشرات كانت تشكل مصدرا غذائيا هاما لإنسان العصر الحجري لكن الناس الآن لا يستفيدون منها ولا يستسيغونها البتة. وهناك أصناف من المأكل والمشرب تحرمها ديانات وتحللها أخرى.

المورد، من وجهة النظر الاقتصادية، أي سلعة أو خدمة أو أي مادة يمكن استخراجها من الطبيعة والانتفاع بها لسد حاجة من حاجات الإنسان أو إشباع رغبة من رغباته. ولا تطلق صفة المورد في عرف الاقتصاديين إلا على الشيء النادر الذي لا يمكن الحصول عليه بدون جهد أو بدون مقابل، بصرف النظر عن ضآلة الجهد المبذول أو المقابل المدفوع. الندرة مسألة نسبية لا تتوقف على الكمية المطلقة لأي مورد بقدر ما تتوقف على مدى الرغبة فيه وإلحاح الحاجة إليه. فالهواء النقي ليس نادرا ولا يعد موردا لمن يجوب البراري ولا يعد ماء الشرب موردا لمن يعيش في كوخ على ضفة الفرات ولا الرمل نادرا لمن يقطن خيمة في الربع الخالي. لكن هذه الأشياء تعد موارد نادرة لمن يسكن مدينة مزدحمة الهواء فيها ملوث والماء يقطع عنه إن لم يدفع الفواتير المسنحقة ولو احتاج شحنة من الرمل في مشروع عمراني فعليه أن يدفع مقابلها مبلغا لا بأس به. وما أكثر الحكايات الطريفة التي تتحدث عن البدو الذين يستهجنون بيع اللبن في الحواضر، نظرا لوفرته عندهم، وأهل الأرياف الذين يستغربون بيع الماء في المدن.

وإضافة إلى الندرة هناك اعتبار المنفعة، أي أن الشيء لا يعد موردا ما لم يُستفد منه في سد حاجة إنسانية، سواء كانت من حاجات الإنسان الأولية التي تمثل الحد الأدنى والضروري لاستمرار بقائه على قيد الحياة، كحاجته للهواء والماء والغذاء والكساء والمأوى، أو حاجة من الحاجات الثانوية التي تفرزها الظروف الثقافية والاجتماعية مثل الحاجة للتعليم ووسائل الترفيه والمواصلات. ويرتبط مع الندرة والمنفعة مفهوم القيمة. لا يمكن تقييم الأشياء دون النظر إلى علاقتها بالإنسان من ناحية وإلى علاقتها بعضها ببعض من ناحية أخرى. فالإنسان في نهاية المطاف هو الذي يقرر ما إذا كان هذا أو ذاك من الأشياء له قيمة أم ليس له قيمة، لكن مبلغ القيمة التي يضفيها الإنسان على أي شيء تتحدد من خلال علاقة هذا الشيء بالأشياء الأخرى، أو ما يسمى قيمة الاستبدال أو القيمة الاجتماعية، أي قيمة ما يساويه الشيء من شيء آخر في حالة استبداله به. وما يحدد قيمة الاستبدال هو ندرة السلعة ومدى الحاجة إليها ومنفعتها للمستهلك ومدى رغبته في الحصول عليها وما بذل في إنتاجها وإيصالها إلى المستهلك من مال وجهد، علاوة على قانون العرض والطلب.

واستثمار الموارد لإشباع الرغبات عادة ما يتضمن قدرا من الاختيار بين بدائل متعارضة واتخاذ قرارات قد لا تكون دائما سهلة لأن المورد الواحد ربما يصلح لإشباع رغبات مختلفة، كما أن الرغبة الواحدة يمكن إشباعها من موارد مختلفة. والعملية الاقتصادية لا تعدو أن تكون عملية توفيقية تقضي بأن يسعى الفرد من خلال الموارد المتاحة له إلى توظيف أقلها كلفة لإرضاء أكثر الحاجات إلحاحا وبأقل جهد ممكن. وهذا ما يطلق عليه الاقتصاديون مسمى maximization أو optimization أو economizing، والذي يقول روبينز بيرلنغ Robbins Burling بأنه لا يقتصر على السلوك الاقتصادي فقط، إذ أن الإنسان بطبعه ودوما يعمل جاهدا في مختلف أوجه سلوكه وفي كل شؤون حياته على أن يسلك الطريق الأسهل ويسخر موارده المحدودة لإشباع أكبر كم ممكن من الحاجات وأن ينجز أهدافه ويحقق طموحاته ويحصل على أعظم المكاسب بأقصر الطرق وأدنى الجهد وبأسرع وقت. وعلى هذا الأساس يوصف السلوك الاقتصادي بأنه سلوك رشيد أو عقلاني rational يقوم على التوفير والتدبير واختيار الأفضل والأجدى من بين بدائل مختلفة، إذ أن تعدد الحاجات وتنوعها وتفاوت أهميتها ودرجة إلحاحها وتباين سبل إشباعها يضطر الإنسان لتحكيم عقله من أجل سلوك أنجع الطرق لتحقيق أقصى المكاسب بأقل الخسائر، وكذلك من أجل ترتيب حاجاته في ظل محدودية موارده وإرضاء الملح منها وتأجيل ما يحتمل التأجيل.

لكن مفهوم العقلانية مفهوم نسبي، بمعنى أنه يحتلف من ثقافة إلى أخرى، فما يعتبر سلوكا رشيدا في مجتمع من المجتمعات قد يبدو سلوكا أخرق في مجتمع آخر. لذلك نجد أن سعي الإنسان نحو تحقيق مكاسب مادية بحتة وإشباع رغبات شخصية فردية يعد سلوكا صائبا ورشيدا في المجتمعات الرأسمالية بينما يعد سلوكا مُشينا في مجتمع ريفي أو عشائري تسود فيه قيم التكاتف والمساواة والإيثار والتضحية وإنكار الذات، ناهيك عن أن سلوك الفرد في المجتمعات التقليدية المحافظة محكوم بعادات وتقاليد صارمة تحد من استقلاليته وتضيق أمامه مجال الحركة وحرية الاختيار. هذا عدا كون بدائية التكنولوجيا في المجتمعات البدائية وبالتالي محدودية الموارد التي يمكن استخلاصها من الطبيعة لإرضاء حاجات الإنسان تحد من خيارات الفرد وتكاد تحصرها في مجالات تحصيل القوت وضرورات البقاء على قيد الحياة. بناء على ذلك ميز كارل بولاني Karl Polanyi بين مفهومين مختلفين للاقتصاد؛ المفهوم الذي يعنى بتدبر الإنسان لأحواله المعيشية وتوفير المتطلبات الأساسية لحياته المادية وحاجاته الضرورية ككائن بيولوجي وككائن اجتماعي، وجميع التنظيمات والإجراءات المتعلقة بذلك، وهو ما يسمى اقتصاد المعاش substantive economics، وهذا المفهوم ينطبق على كل المجنمعات من أدناها حتى أكثرها تطورا وتقدما، فكل المجتمعات تحتاج للأكل واللبس والدفاع عن النفس والتزاوج وتنظيم الطقوس والشعائر، الخ. والمفهوم الآخر هو المفهوم القائم على اقتصاد السوق والنقود والذي يعنى بتحقيق الأرباح والمكاسب وزيادة الإنتاج مع تقليل النفقات من أجل تنمية الثروات والذي يقوم على تقديم المصلحة الشخصية على أي اعتبار آخر، وهو المفهوم السائد في المجتمعات الصناعية والرأسمالية. في هذا المفهوم الأخير يتحول كل شيء، بما في ذلك الجهد الإنساني، إلى سلعة قابلة للبيع والشراء يحكم قيمتها مبدأ العرض والطلب في سوق تنافسية.

باختصار، تتفاعل القاعدة التكنولوجية مع البيئة الطبيعية ومواردها لتشكل الأساس الذي يقوم عليه النسق الاقتصادي والذي بدوره يحدد طبيعة العلاقات الاجتماعية وما ينتج عن ذلك من أنساق وقيم ثقافية.

 







  

<<Previous   |  All Articles  |  Next>>