Please enable JavaScript in your browser preferences and then Reload this page!!!

الصفحة الرئيسية | السيرة الذاتية مراجعات أعمال د. الصويان الأعمال المنشورة | الصحراء العربية: شعرها وثقافتها | أساطير ومرويات شفهية من الجزيرة العربية
 الثقافة التقليدية مقالات صحفية في الأدب الشفهي مقالات صحفية بالعربية محاضرات عامة معرض صور تسجيلات صوتية موسيقى تقليدية
ديواني
| كتب في الموروث الشعبي مخطوطات الشعر النبطي أعمال قيد النشر لقاء تلفزيوني مع محطة العربية مواقع ذات علاقة العنوان

Home | Curriculum Vita | Reviews | Publications | Arabian Desert Poetry | Legends & Oral Narratives  
Traditional Culture
|
Articles on Oral Literature | Articles in SaudiDebate | Public Lectures |  Photo Gallery | Sound Recordings
Traditional Music
| Anthology | Folklore Books | Manuscripts | Work in Progress | TV Interview | Relevent Links | Contact

من اغتال فينا البراءة!

سعد الصويان

تفاجأت ظهيرة أحد الأيام بأم عبدالله وقد أعدّت لي كبسة حاشي فاخرة ولذيذة التهمتها بشراهة· وبعدما لحست أصابعي وتجشأت وتاغرت اتكأت أتمطّى وأتثاءب وأترقب نهاية الأخبار لأستسلم لهجمة النعاس التي أناخت علي بكلكلها· خلال الفاصل الإعلاني التفتت إلي لتتحفني ببعض المجاملات التي ما أن تطرق مسمعي حتى أعرف أن وراء الأكمة ما وراءها: خير يابنت الحلال، اقصري السالفه، وش تبين؟ والآن دعوني أفصّح لكم وأترجم ما قالته لي بلهجتها القصيمية: بحكم عملي كمربية في روضة أطفال وبحكم اهتمامك بالثقافة المحلية، لماذا لا تبحث لنا في مأثوراتنا الشعبية عن أهازيج نعلمها لأطفالنا في الروضة يرددونها بدلا من هذه الأهازيج المستوردة من البلدان العربية الأخرى؟ ولّيييي، هذي اللي ما حسبنا حسابَه! وللخروج من هذه الورطة وطلبا للنجاة قررت الهرب واللجوء إلى صوت الضمير والوطنية والقومية العربية· ياام عبدالله، الله يهديك، وش الفرق بيننا وبينهم؟ كلنا إخوان، هم عرب وحنا عرب، وعلى ما قال القايل "اللي بْبَطْن الحويّر بْبَطْن امّه"· لا، بس واللي يسلّمك يابو عبدالله وش اللي يمنع إننا نضيف أهازيجنا إلى أهازيجهم، وعلى ما قال القايل "زيادة الخير خيرين"·

لم تكن هذه المرة الأولى التي تُثبت لي فيها التجربة أنه ليس من السهل المخاتلة والضحك على :ذقن" المرأة المتعلمة· فما كان لي إلا أن أركز ذقني في صدري وأغمض عيني وأغط في شخير مصطنع سرعان ما تحول إلى نوم عميق· بعد أن استيقظت من القيلولة أحضرت أم عبدالله الشاي وانتظرت حتى ارتشفت الفنجان الأول وعركت عيوني واستعدت كامل وعيي ثم أعادت علي نفس الطلب·

استسلمت للأمر وجلست أستعرض معها الأهازيج التي حفظناها من سني الطفولة الغابرة· كم كانت الصدمة قوية· اكتشفنا على كثر ما نحفظه أنا وهي من الأهازيج أن معظم أهازيجنا لم تعد في وقتنا الحاضر تليق برياض الأطفال· هذه هي نفس الأهازيج التي تعودت على تردادها "عندما كنت صغيرا وجميلا" وحفظتها من أمي وأبي وجدي وجدتي، والآن ها أنا لا أستطيع تلقينها لأطفالي· وهاأنا أُحجم عن إيراد الأمثلة هنا لأنني لا أدري ما مساحة حرية القول المسموح لي بها في هذه الزاوية· ياللهول! ماذا حدث؟ "هل تغيّرت كثيرا؟" فجأة وجدت نفسي كمن يجلس على برميل بارود· أينما وجهت في فضاءات هذا الموروث أجد إيحاءات جنسية أو ما يشير إلى الأعضاء التناسلية أو إلى الخارج من السبيلين· من الحكايات إلى الألغاز إلى المعضلات اللفظية التي يفترض أن تعوّد على فصاحة اللفظ وذرابة اللسان·

أنا لا أقصد أن أقول بأن كل موروثنا الشعبي كان على هذه الشاكلة· ولكن يبقى السؤال: ما الذي سمح لنا في عصر الأمية أن نكون على هذا القدر من الحرية والتسامح والانفتاح بينما الآن لا تستطيع أن تصافح حتى خالتك أو عمتك دون أن تلف عباءتها على يدها وتسلم عليك بتحفظ وعن بعد دون ظم ولا لثم ولا تقبيل! من الذي اغتال فينا البراءة؟ أين نحن الان من ذلك العهد الذذي يقول فيه شاعر بريده يهجو أهل عنيزه:

أهل عنيزه مخلفين الطبيعه//حريمهم ورجالهم بالمبيعه

أذكر في طفولتي أنه كان أمرا مألوفا أن يختلط الرجال والنساء في الأماكن العامة وأماكن البيع والشراء ولم يكن مستغربا أن ترى أما تكشف صدرها وتخرج ثديها من فتحة جيبها لترضع ابنها في مكان عام دون أن تلفت الأنظار أو تثير دهشة أو اعتراض أي أحد· هذا منظر يصعب تصور حدوثه الآن· كان الناس في أحاديثهم اليومية العابرة لا يجدون غضاضة في تداول ألفاظ واضحة في مدلولاتها الجنسية وصريحة في إشاراتها إلى أعضاء ووظائف جسدية يتحاشى الناس الآن إدراجها على ألسنتهم· ولا أستطيع أن أحدثكم عن "حبّة العيد ما بَه منّه" لأنه أدركني الصباح وامتلأ فمي ماء فلم أعد قادرا على الكلام الصراح· وهناك أمثلة أخرى عديدة على هذه الوتيرة يمكن إيرادها وكلها في رأيي شواهد على البراءة الجنسية وليس الحرية الجنسية· حتى في السياسسة كنا أبرياء· حينما يدخل شيخ كبير السن "شايب" على مسئول كبير المنصب ويخاطبه بصراحة مع شيء من خشونة الألفاظ فإن الباعث لذلك ليس الوعي السياسي وإنما التعامل الفطري البريء· ومن منا لم يجد نفسه في يوم من الأيام يقف محرجا أمام صراحة كبار السن من ذويه ومعارفه!

يبدو لي أن غياب السلطة المركزية بأيديولوجياتها المبلورة ومواردها البشرية والمادية جعل من المتعذر في العصور الماضية وجود هيئات رقابية وأذرعة أمنية ومؤسسات للتوعية والتثقيف تتغلغل في النسيج الاجتماعي وتلزم الجميع بالعيش والتعايش وفق معايير دينية وأخلاقية واضحة المعالم وسلوكيات سياسية واجتماعية مقننة وخاضعة لأنظمة وقواعد مكتوبة ذات صبغة رسمية· انعدام سلطة الدولة يعني تعطيل آليات التوعية والتثقيف من جهة وانعدام وسائل الضبط والرقابة من جهة أخرى· وهذا يعني سقف أعلى ومساحة أكبر للحرية الفردية في القول والعمل· لكن ذلك النوع من الحرية الذي نشأ في رحم الفوضى نتيجة لانعدام الضوابط غير تلك الحرية التي تنبعث وتقوم لتتوج مراحل من التطور الحضاري والنضج الفكري والسياسي· الحرية الفردية النابتة في أرضية الجاهلية الدينية والأخلاقية وفي ظل الوحشية الثقافية والسياسية، حرية البراءة والبساطة والحياة على الفطرة والسجية، شيء مختلف عن الحرية الشخصية القائمة على صرح فكري متين وعلى قناعات واعية تسندها تضحيات طويلة· ولكن يبقى الدرس المستفاد هو أن العقول وقناعاتها طيعة مرنة تستطيع أن تشكلها كما تشكل طينة الفخار فبراءة الأمس تحولت اليوم إلى تزمت وتجهم وتهجم· أنا لا أنادي بالعودة إلى تلك الحرية الفجة والبراءة الطفولية ولكن لماذا انمحت معالمها تماما ولم نستبق منها شيئا البتة ليضفي شيئا من البهجة على الحياة يعين على احتمالها· اندثرت كما لو أن هناك بلدوزرات عملت بشكل ممنهج ومسحت تلك البراءة وجرفتها مع بيوت الطين والسكك القديمة ونسيناها وكأنها لم تكن!

 
 







  

<<Previous   |  All Articles  |  Next>>