Please enable JavaScript in your browser preferences and then Reload this page!!!

الصفحة الرئيسية | السيرة الذاتية مراجعات أعمال د. الصويان الأعمال المنشورة | الصحراء العربية: شعرها وثقافتها | أساطير ومرويات شفهية من الجزيرة العربية
 الثقافة التقليدية مقالات صحفية في الأدب الشفهي مقالات صحفية بالعربية محاضرات عامة معرض صور تسجيلات صوتية موسيقى تقليدية
ديواني
| كتب في الموروث الشعبي مخطوطات الشعر النبطي أعمال قيد النشر لقاء تلفزيوني مع محطة العربية مواقع ذات علاقة العنوان

Home | Curriculum Vita | Reviews | Publications | Arabian Desert Poetry | Legends & Oral Narratives  
Traditional Culture
|
Articles on Oral Literature | Articles in SaudiDebate | Public Lectures |  Photo Gallery | Sound Recordings
Traditional Music
| Anthology | Folklore Books | Manuscripts | Work in Progress | TV Interview | Relevent Links | Contact

العرج الثقافي

سعد الصويان

العرج الثقافي أن تُفتح عشرات الجامعات والكليات والمعاهد دون الإيمان حقيقة بأهمية العلم ودوره في الحياة أو توظيفه في شؤون المجتمع وقضاياه وفي التخطيط للمستقبل· العرج الثقافي أن تتأسس جمعية لحقوق الإنسان دون الاعتراف بالمرأة كإنسان له حقوق مثل ما للرجل، أو أن تمنح المرأة تعليما جامعيا ثم لا يُستفاد منها في سوق العمل كطاقة بشرية وقوة عاملة· العرج الثقافي أن تمتلك مؤسسات إعلامية عملاقة ثم تحد من حرية التعبير وتحرّم المسرح والموسيقى والغناء والفنون ولا تؤهل فنانين ومبدعين قادرين على توفير المادة اللازمة لشغل هذه المؤسسات الإعلامية· العرج الثقافي أن تؤثث بيتك بالصوفات والكراسي وطاولات الأكل ثم تجلس أنت وضيوفك على الأرض وتفرشون الجرايد سفرة تأكلون عليها· باختصار، العرج الثقافي هو التقدم في الجانب المادي من الثقافة مع تخلف القيم والتقاليد والعادات والممارسات والتنظيمات الإدارية، مما يمنع من الاستفادة من التقدم المادي وتوظيفه على الوجه الأكمل·

العرج الثقافي ترجمتي بتصرف لمفهوم cultural lag الذي يترجمه البعث بعبارة "الهوة الثقافية"، وهو مفهوم سوسيولوجي استحدثه علماء الدراسات الثقافية والاجتماعية لتشخيص حالة المجتمعات التقليدية التي تطمح إلى التنمية وتقف في طريقها عوائق أهمها عدم التوافق بين متطلبات التنمية ومنجزاتها وبين بعض القيم الاجتماعية والعادات المتأصلة والمترسبة أحيانا في أماكن قصية من قاع اللاوعي والضمير الجمعي· في هذه المجتمعات النامية غالبا ما يكون المخططون ومسؤولوا الدولة يعرفون تماما ما الذي يلزم عمله لتحديث المجتمع وتطويره إلا أن العادات والتقاليد، والتي عادة ما تصطبغ بصبغة أخلاقية أو تتخذ صيغة دينية تجعل التنازل عنها أمرا صعبا، تقف حجر عثرة دون تحقيق الطموحات المأمولة· وقد يتمثل المعوق في تطور جانب من جوانب الحياة الاجتماعية والمدنية بينما يبقى جانب آخر يخدم ذلك الجانب المتطور متخلفا لا يؤدي دوره بالشكل السليم، كما يحدث مثلا حينما تتوفر السيولة النقدية وتنشط الحركة التجارية وينمو الاقتصاد بينما تنعدم قنوات الاستثمار وتظل المحاكم والقوانين التجارية والجمركية متخلفة لا تتماشى مع الطموحات والمتطلبات المستجدة·

يقوم مفهوم العرج الثقافي على فرضية المماثلة العضوية organic analogy بين المجتمع البشري macrocosm وبين جسد الكائن الحي microcosm، كما عبر عنها أفلاطون وابن خلدون، وكما عبر عنها الحديث الشريف في إشارة إلى المجتمع الإسلامي بأنه كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا أو أنه "كمثل الجسد، إذا اشتكى عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى· ويمكننا أيضا أن نشبه المجتمع بالآلة أو المركبة التي تتألف من أجزاء ومكونات مترابطة تعمل مع بعضها البعض بالتناسق، ولذا ينبغي لها جميعها أن تكون في حالة جيدة، إذ لو تعطّل منها جزء لاختل عمل الآلة، فلو انقطع السير مثلا لما دار ماطور السيارة ولو فظت البطارية ما دق السلف·

العرج الثقافي يجعلك أحيانا تحس وكأنك تعيش في عالمين مختلفين، علما بأنك في بلد واحد· تذهب مثلا إلى الفيصلية أو إلى المملكة أو إلى ساكو أو كارفور فينشرح صدرك لما تراه من روعة التصميم والتنظيم والنظافة· ولكن لو ذهبت إلى مسجد الحارة أو إلى المحكمة أو أي دائرة حكومية لهالك ما تراه من بناء متداعٍ وأثاث رث ومن سوء التنظيم وخشونة التعامل· وهناك مؤسسات جُهّزت تقنيا وبالكامل لخدمة الجمهور لكن العاملين فيها لم يدرّبوا على خدمة الجمهور، وبالتالي فإن الجمهور لا يحصل على الخدمة اللازمة، لأن كلمة خدمة في ثقافتنا أصلا عيب، فمن المفروض، إذا إنك ولد حمولة وناس، أن يخدمك الآخرون لا أن تخدِمَهم· "ما نيب خادمٍ عند ابوك" من العبارات المفضّلة لدى بعض الموظفين، يرددونها للتملص من خدمة المراجعين· بل إن منهم من لا يتنازل لخدمتك إلا إذا ضمن أنها خدمة متبادلة· ما أكثر المكاتب والوظائف والموظفين لدينا، لكننا نفتقر إلى شيء أساسي: الأخلاق المهنية والوظيفية، وهذا منحى آخر من مناحي العرج الثقافي·

الثقافة العرجاء لا تستطيع السير واللحاق بركب الحضارات الأخرى· دعوني أستخدم صورة أخرى· هذه المشاهد التي تحدثت عنها "بطانيج" و "مطبّات" تعيق تطور الحضارة وتجعل مسيرتها متعثرة وغير مريحة· لا بد من تمهيد الطريق ومحاولة القضاء على هذه البطانيج والمطبات عن طريق تسهيل التنسيق المتدفق والمستمر بين مختلف مكونات البناء الثقافي والاجتماعي لتعمل مع بعضها بتناغم واتساق· أنا لا أدعو بالضرورة إلى إيجاد مؤسسة حكومية للقيام بهذه المهمة، فعلتنا كثرة المؤسسات وتدخل الدولة في الكثير من الشؤون التي كان ينبغي للمواطنين والمؤسسات المدنية تحملها بدلا من إرهاق موارد الدولة وقوتها العاملة· هناك مفاهيم أساسية في البناء الحضاري والتطور الاجتماعي ينبغي غرسها في الأذهان من خلال المؤسسات التربوية والمناهج التعليمية والبرامج الإعلامية· لقد أضعنا فرصة ثمينة حينما سمحنا لمادة التربية الوطنية بالفشل· لو أنها وُجّهت الوجهة الصحيحة وكانت نيات القائمين عليها نوايا وطنية صادقة لسدت ثغرة مهمة ولبت حاجة ملحة· كان ينبغي أن نغرس في نفوس أبنائنا مفاهيم حضارية مثل الترشيد في الاستهلاك بدل الإسراف ونظافة البيئة وأن الوطن ملك للجميع وأن المواطنين أخوة وأن خدمة الآخرين واحترامهم وسام وشرف للذات وليست إهانة واحتقار، إضافة إلى أخلاق المهنة والالتزام الوظيفي، وكذلك حب الأرض والولاء للوطن ومعرفة جغرافيته وتاريخه ومكوناته الثقافية والاجتماعية· لو كانت مثل هذه المفاهيم مغروسة في النفوس لساعدت كثيرا على نجاح برامج السعودة·

ومن الأمور التي سوف تساعد في تقويم مسيرتنا الحضارية ومعالجة ما نعاني منه من عرج ثقافي إيجاد حد أدنى من التوافق والاجماع consensus حول الأهداف والأولويات الوطنية والقيم والثوابت التي تقبلها الأغلبية ويتبناها الجميع ويتعهدون على تحقيقها وحمايتها· ويتم ذلك عن طريق الحوار المفتوح والتواصل البناء والمستمر بين مختلف شرائح المجتمع وفئاته· إن إحساس المواطنين بأنهم شركاء في رسم مستقبل الوطن وتحديد أهداف الأمة ومشاركتهم في الرأي واتخاذ القرار سوف يجعلهم شركاء في تحمل المسؤولية وسوف ينمي لديهم الحس الوطني بما يتبع ذلك من قيم الولاء والانتماء والالتزام المهني والأخلاقي·

الدرس المستفاد من مفهوم العرج الثقافي هو أن التنمية لا تتجزأ وأن التحديث لا يمكن أن يتم إلا من خلال التنمية الشاملة المتكاملة التي تتغلغل في صميم المجتمع وتنفذ إلى جميع مكوناته· إنه نوع من ضبط الإيقاع وحفظ التوازن والتنسيق بين هذه المكونات· مثال بسيط: لو أنك شيدت عمارة فخمة على أحدث تصميم في أرقى الأحياء، لكنك لم توصل لها الماء أو الكهرباء أو التكييف أو الهاتف فإنها ستظل معطلة لا يستفاد منها· كما أنه لا بد أن يشارك الجميع في تحقيق التنمية وخدمة الوطن وتحديث المجتمع، وعلى رأي المثل: اليد الوحده ما تصفّق·

 







  

<<Previous   |  All Articles  |  Next>>