Please enable JavaScript in your browser preferences and then Reload this page!!!

الصفحة الرئيسية | السيرة الذاتية مراجعات أعمال د. الصويان الأعمال المنشورة | الصحراء العربية: شعرها وثقافتها | أساطير ومرويات شفهية من الجزيرة العربية
 الثقافة التقليدية مقالات صحفية في الأدب الشفهي مقالات صحفية بالعربية محاضرات عامة معرض صور تسجيلات صوتية موسيقى تقليدية
ديواني
| كتب في الموروث الشعبي مخطوطات الشعر النبطي أعمال قيد النشر لقاء تلفزيوني مع محطة العربية مواقع ذات علاقة العنوان

Home | Curriculum Vita | Reviews | Publications | Arabian Desert Poetry | Legends & Oral Narratives  
Traditional Culture
|
Articles on Oral Literature | Articles in SaudiDebate | Public Lectures |  Photo Gallery | Sound Recordings
Traditional Music
| Anthology | Folklore Books | Manuscripts | Work in Progress | TV Interview | Relevent Links | Contact

عسى ضده فايت

سعد الصويان

هذه العبارة "عسى ضِدُّه فايت" كنت أسمعها كثيرا من الشيبان وكبار السن حينما يَفْتَرّ لهم ثَغْر الدنيا عن ابتسامة خجول وهنيهة فرح خاطفة، حينما تمر بهم لحظات من السعادة يقتطعونها من شقائهم المتواصل يضحكون فيها ويفرحون· ومعنى العبارة أنهم يبتهلون إلى الله بأن يكون الحزن الذي هو ضد الفرح والبكاء الذي هو ضد الضحك قد ولّى وفات وليس مما تخبؤه الأيام في ظهر الغيب وطيات المستقبل القادم، وهي شبيهة بقولهم: الله لا يغيّر علينا· بيئة الصحراء الشحيحة ولدت هذه الذهنية التي لا ترى من الدنيا إلا وجهها المكفهر "الكالح"، ولا تجد في الحياة إلا سلسلة من الأحداث التراجيدية التي تضيق فيها مساحة الأنس والفرح إلى أقل من القليل· الشقاء هو الشيء العادي والمعتاد والمتوقع، هو الشيء الذي تكيف الناس معه وألفوه لدرجة أنه لو مرت بهم لحظة سعادة لفقدوا توازنهم وارتابو وتوجسوا خيفة· ليس الفرح وحده هو الشيء المستنكر بل كذلك الشبع ومِلئ البطن، يقول الشاعر: فلا ضحكٍ الا والبكا مردفٍ له// ولا شِبْعه الا مقتفيها جوع· بل إن الشنفرى وصلت به الألفة ورفع الكلفة بينه وبين الجوع إلى حد أنه يتصارع معه ويصرعه: أُديم مِطال الجوع حتى أُميته// وأصرف عنه الذكر صفحا فأَذهَلُ· وفي ظل غياب التكنولوجيا والميكنة كانت الطاقة البشرية هي التي يعوَّل عليها في إنجاز معظم الأعمال، وهذا يعني تعب وشقاء وعناء لا ينقطع، أو كما يقولون "تعَب وطقّ كعب"، وفعلا كانت عظامهم تفرقع وتطقطق أثناء القيام والقعود من كثرة النصب وشدة التعب· وكانت الأمراض تفتك بالناس دون أن يجدوا لها علاجا· يحل بهم وباء مثل الجدري أو الكوليرا أو الحصباء أو الطاعون أو الجرب فتفنى الحلّه والحلال، ويحصد مدنا بكاملها ويمحى عوائل من الوجود، ولا يستطيعون عمل أي شيء· ليس هذا فقط، بل إن الأمن الأمان كانا معدومين· أجسام مريضة وأجساد منهكة وبطون جائعة ونفوس خائفة وترقب للأسوأ في أي لحظة·

كانت حياة ابن الصحراء ونشاطاته محكومة بشكل ملحوظ بتقلب المواسم والفصول والمناخ والمؤثرات الطبيعية الأخرى، حيث أنه عرضة للتأثر بعوامل البيئة والمناخ التي تظهر آثارها الدراماتيكية على الإنسان والحيوان والنبات بصورة مباشرة وسريعة· أي زخّة بَرَدٍ أو مطرٍ قوية يمكن أن تجرف محصوله الزراعي أو تهدم بيته الطيني أو عشّته· اقرأ هذا المشهد الدرامي الذي يرسمه سويلم العلي لحالة ذلك الفلاح:

يوم استتم الزرع شال النما شيل// نِشَت بردها كبر روس البهوم

وهلّت على وصط المفالي هماليل// وصارت على روس النواحي رجوم

واللي بقى من حبّها شاله السيل// غثو السبل بالسيل مثل الهدوم

واصبح يصيح ويزعج الويل بالويل// عن نول ما نالت يديه محروم

قد تغيض مياه الآبار وقد يشتد البرد وقد تهجم أسراب الجراد وقد تشح السماء بالمطر وقد يهجم الغزاة، كل هذه كانت ظروف متوقعة في أي لحظة وتؤدي إلى هلاك الحرث والزرع والضرع وتحول الإنسان في طرفة عين من شخص غني إلى شخص فقير· وحياة البدوي كذلك صراع مستمر مع قوى الطبيعة والأعداء، وثروته الحيوانية سريعة العطب جراء الجوع والعطش، كما أنها عرضة للنهب من الغزاة· ملكية ذود الإبل الذي في حوزة البدوي أمر مشكوك فيه فمن المحتمل في أي لحظة أن يُنهب منه أو أن يهلك ظمأ أو يفقده عن آخره في سنوات القحط· والجدب والجرب· ومن الأمور العادية في حياة البدوي أن يصبح غنيا يملك قطيعا من الإبل فينهبه الغزاة ويمسي لا يملك شيئا· ويرسم لنا سويلم العلي حالة هذا البدوي بعد أن نهب الغزاة إبله في قوله:

غارت عليه القوم خيل ورجاجيل// غاروا يبون المال ما فيه لوم

واقفوا على ذوده عصاةٍ مشاكيل// عج الرمك والبل مثل الغيوم

واقفى مْذِلًّ مع دكاك الغراميل// يفرك يديه ومر كبده يزوم

عقب السعد والعز والبن والهيل// وكبشٍ مْرَبّينه لكل محشوم

اليوم يسهر كل ما جَرْهَد الليل// ودايم على غيضه صموتٍ كضوم

وهكذا كان المرء يعيش وجها لوجه مع الطبيعة القاسية تحت رحمة تقلباتها المتضادة وتناقضاتها الحادة· برد قارس يعقبه حر لافح، ربيع يعقبه قحط وجفاف، قبيلة تجتمع بقضها وقضيضها على الموارد في فصل الصيف ثم تتشتت في جوف الصحراء بعد طلوع نجم سهيل، وهكذا· وخير ما يمثل هذه التضادية الحادة بشكل رمزي ناقة الشاعر في مقدمة القصيدة الجاهلية· تكون الناقة في بداية الرحلة الشاعرية مكتنزة شحما ومشحونة طاقة لا يستطيع راكبها كبح جماحها حتى لتكاد تحطم كورها· لكنها في نهاية الرحلة تؤول إلى شبح هزيل، إلى هيكل عظمي يغطيه الجلد· يذهب شحمها ويتلاشى سنامها ويترك الرحل والأنساع قروحا غائرة وندوبا على ظهرها وآثارا واضحة على دفتيها "دِبَر"· وتختصر زوجة ابن عروج هذه الفكرة في قولها عن ناقة زوجها تصف كثرة مغازيه: عقب الشحم وملافَخَه للرديف// قامت تضوكع مثل مرهوص الاقدام·

في ظل غياب العلم وبدائية التكنولوجيا يصبح الإنسان قليل الحيلة لا يستطيع أن يرسم خططا مسقبلية يؤمّن بها نفسه ومجتمعه ضد غوائل الدهر وتقلبات الزمن· مجتمع كهذا لا تمكّنه ثقافته المادية ولا إمكانياته التقنية من إحكام سيطرته على الطبيعة· لا يملك الإنسان في هذه الحالة إلا أن يستسلم للقضاء والقدر، إذ لا يملك المعارف ولا الأدوات الضرورية وليس بوسعه أن يعمل شيئا أو أن يغير في مجريات الأمور أو سير الأحداث، أو حتى فهمها وتفسيرها والتعامل معها بشكل سليم· تصبح عيشة الإنسان في مثل هذه الظروف مجرد محاولات لا تنقطع لإدارة أزمات متلاحقة من أجل تقليص الخسائر وتخفيف الأضرار، وكل ما يطمح إليه هو الحد الأدنى الذي يمكنه من البقاء على قيد الحياة· هذا الوضع لا يتيح للإنسان أصلا فائضا من الطاقة الذهنية للتفكير جديا في المستقبل·

هذه الحالة من البؤس المتأصل والشقاء المتصل تولد عند الإنسان نزعة تقشفية تجعله يعرض عن الدنيا ويزهد فيها· لا بد للإنسان في مثل هذا النمط الحياتي أن يمرّن نفسه ويتعود على شظف العيش الذي هو دائما له بالمرصاد· لا ينبغي له أن يستكين لملذات الدنيا حتى لا ينخدع بها ويفقد مناعته ضد الشدائد والملمات التي هي دائما تقرع الباب· لذا نجد شعراءهم يحثونهم على الخشونة ويحذّرونهم من أن يضع المرء ثقته في الدنيا وتقلباتها: لا تامن الدنيا ولا ترتهي بَه// تِقبِل وتعطي عقب الاقبال عرقاب· ويقول الآخر: لا تامن الدنيا ولو زان وجهها// ترى رميها للعالمين حْفان· وهكذا تسيطر العقلية التشاؤمية التي ترجّح كفّة الشقاء في هذه الدنيا وترى أن الحياة لا تساوي شيئا وأن الاستثمار فيها خسارة وأن من يطمع فيها يفقد كل شيء·

لم يكن لآبائنا وأسلافنا إلا أن تتشكل ذهنيتهم على هذه الشاكلة ويتلون تفكيرهم وفق هذه النظرة التشاؤمية الاستسلامية، فلم يكن لهم مفر من ذلك في ظل ضحالة ثقافتهم المادية وبدائية التكنولوجيا وغياب العلم والمعرفة· ولكن ما عذرنا نحن وقد تهيأت لنا الأسباب ووصلنا ما وصلنا إليه من التطور المعرفي والإنجازات على مستوى التكنولوجيا والحضارة المادية؟ لماذا نظل متمسكين بهذا المركّب النفسي وهذه الشخصية النمطية التي ترفض الحياة ومباهجها وإمكانات العقل وقدرات الإنسان؟! لو جمعك مجلس مع ثلة من المثقفين والمفكرين يتباحثون في الشأن العام والقضايا المحلية والدولية لوجدتهم يتفاعلون مع مستجدات الأحداث ويتجاوبون مع متغيرات العالم من حولهم ويحللونها ويفسرونها بنفس الذهنية القديمة المتشائمة المستسلمة التي لا تملك من أمرها شيئا· لا زالت تغلب علينا سمات التردد والتحفظ والحذر في التعامل مع القضايا والأحداث ونفتقد إلى روح المبادرة والحركية ونبقى متفرجين لا فاعلين ودائما نتوقع الأسوأ· ألم يحن الوقت بعد للتخلص من هذا الإرث الكئيب وهذا الحمل الثقيل؟ ألم تحن ساعة الفرح والضحك دون الشعور بالإثم أو الإحساس بالذنب؟ لنخلع براقع الحزن والتشاؤم ونقبل على الحياة مستبشرين جذلين نستمتع بمباهجها ونبدع ونفكر ونخطط ونرسم المستقبل بحيوية وتفاؤل، نأخذ من هذه الحياة ونعطيها كما يقول خالد الفيصل: هذي حياتي عشتها كيف ما جات// آخذ من الدنيا واردّ العطيّه·

 







  

<<Previous   |  All Articles  |  Next>>