Please enable JavaScript in your browser preferences and then Reload this page!!!

الصفحة الرئيسية | السيرة الذاتية مراجعات أعمال د. الصويان الأعمال المنشورة | الصحراء العربية: شعرها وثقافتها | أساطير ومرويات شفهية من الجزيرة العربية
 الثقافة التقليدية مقالات صحفية في الأدب الشفهي مقالات صحفية بالعربية محاضرات عامة معرض صور تسجيلات صوتية موسيقى تقليدية
ديواني
| كتب في الموروث الشعبي مخطوطات الشعر النبطي أعمال قيد النشر لقاء تلفزيوني مع محطة العربية مواقع ذات علاقة العنوان

Home | Curriculum Vita | Reviews | Publications | Arabian Desert Poetry | Legends & Oral Narratives  
Traditional Culture
|
Articles on Oral Literature | Articles in SaudiDebate | Public Lectures |  Photo Gallery | Sound Recordings
Traditional Music
| Anthology | Folklore Books | Manuscripts | Work in Progress | TV Interview | Relevent Links | Contact

القبيلة خارج الدولة وداخلها

سعد الصويان

معلوم أن هناك قدرا من عدم التوافق بين مفهوم القبيلة التي يتحدد الانتماء لها وما يترتب على ذلك الانتماء من حقوق وواجبات من خلال نظام القرابة والعصبية وبين مفهوم الدولة الذي يتحدد الانتماء لها من خلال مفهوم المواطنة والانتماء الجغرافي· وكلما سارعت الدولة خطاها وحثت مساعيها نحو تكريس سلطتها وتعزيز هيمنتها كلما اتضحت حدة التناقض بينها وبين النظام القبلي· التوتر الذي يسود علاقة القبيلة مع الدولة كتنظيم سياسي يوازيه توتر من نوع آخر، هو ذلك التوتر الذي يسود علاقة البدو مع الحضر والفلاحين منذ فجر التاريخ· ولأن الدولة مدنية بطبعها فليس من المستغرب أن تجد نفسها منحازة نحو الحضر في صراعهم التقليدي مع البدو وتتبنى وجهة النظر الحضرية تجاه البداوة، لكنها تبلور هذه النظرة من مجرد صور نمطية ومشاعر غامضة إلى نسق فكري وأيديولوجي متكامل· تحول الدولة هذا التوتر من مجرد تنافس إيكولوجي يمكن له أن يتخذ شكلا تكامليا سلميا إلى صراع أيديولوجي تضادي بين الدولة والقبيلة كتنظيمين سياسيين متمايزين تغذيه رغبة الدولة في توسيع سلطتها وفرض هيمنتها على القبائل·

ترى الدولة في حركية القبائل البدوية وروحهم القتالية عوائق تحد من إحكام قبضتها عليهم وإخضاعهم لسلطتها، وبالمقابل لا يرى البدو في الدولة إلا قوة تجبرهم على دفع الضريبة أو الزكاة وعلى المحاربة في صفوفها دون أن تدفع لهم أي شيء بالمقابل لأن خدمات الدولة إن وجدت لا توجد إلا في الحواضر دون البوادي· وبينما ترى الدولة أن من حقها أن تفرض الضرائب والزكاة ومختلف الرسوم على مواطنيها نجد أنها تعتبر "الخاوه" التي تفرضها القبيلة على من يجتاز مضاربها مقابل التمتع بحمايتها والاستفادة من مواردها الطبيعية من حطب وحشيش وماء ابتزازا لا مبرر له· ولا تقبل الدولة أن تقاسمها القبيلة ولاء الأفراد المنتمين لها ولا تقر الأعراف القبلية مثل "الدخاله" و"الخاوه" و"الوجه" وغيرها من الأعراف التي تنتقص من سلطة الدولة وتتنافى مع تشريعاتها· وهناك الكثير من العادات والممارسات التي تسيّر سلوك ابن القبيلة وتحكم علاقته بالآخرين والتي تشكل جزءا من هويته الثقافية ومن قيمه الاجتماعية التي يصعب عليه التخلي عنها لكن الدولة لا يمكن أن تقرها وتقبل بها· مثال ذلك قضية الثأر واقتصاص الفرد لنفسه من الآخرين وأخذ حقه بيده وبقوة السلاح· ومن البديهي أنه ليس من السهل على البدوي أن يتخلى عن "سلوم العرب" ويخضع لنظم الدولة التي صاغتها ذهنيات حضرية· التخلي عن "سلوم العرب" والأعراف القبلية وقيم الصحراء والرضوخ لشرعة الحضر كان يشكل تحديا كبيرا بالنسبة لابن البادية·

من هنا نجد كل الدول التي قامت في بلاد العرب على مر العصور سعت جاهدة لتقويض القيم القبلية وتبنى أيديولوجية مناهضة للأيديولوجية القبلية وبأساليب تقوم على المقابلة والمفاضلة بين البداوة والحضارة وإبراز التضادية بينهما مع التأكيد دوما على أفضلية التحضر والاستقرار وعلى تفوق الثقافة المدنية الكتابية على ثقافة الترحال الشفهية· التباين الأيديولوجي والاختلاف التنظيمي بين الدولة والقبيلة كنقيضين يصعب التوفيق بينهما تغذيه تعاليم الدين الذي غالبا ما تستمد منه الدولة الناشئة شرعيتها وتتخذ منه سلاحا فعالا في صراعها الأيديولوجي مع القبيلة، خصوصا وأن تعاليم الدين لا تتواءم مع حياة الترحال والقيم القبلية· منذ أن بزغ فجر الدولة الإسلامية الأولى وحتى ظهور حركة الإخوان التي قامت عليها الدولة السعودية الحديثة كانت القبائل البدوية تُجبَر على الرضوخ لسلطة الدولة باسم الدين· فالدولة مثلا ترى أن طبيعة الحياة البدوية غير موائمة للتفقه في أمور الدين وإقامة شعائره على الوجه الصحيح، ويصعب هنا حصر جميع الأقوال التي تؤكد هذه النظرة والتي منها مقولة "الدين حضري" ومقولة "من بدا جفا"، بل إن بعض المذاهب كانت لا تقبل شهادة البدوي ضد الحضري· وممارسة شعائر الدين وطقوسه على الوجه الصحيح تفترض توفر نصوص دينية مكتوبة مثل القرآن ومساجد معمورة لإقامة الصلاة، وهذا ما يتنافى مع حياة الترحال البدوية وطبيعتها الشفهية· إقامة شعائر الإسلام على وجهها الصحيح يفترض الإقامة في الحضر، وربما كان الإسلام أساسا يهدف إلى توطين البدو، لأن كل سلطة مركزية تظهر في الجزيرة العربية تهدف أول ما تهدف إلى توطين البدو نظرا لما بين النظام القبلي ونظام الدولة المركزية من تناقض· وقد اتخذت كل الدول التي نشأت في بلاد العرب من أمية البدو وجهلهم بالشرائع السماوية والكتب المقدسة ذريعة لإخضاعهم وسلاحا في صراعها الأيديولوجي معهم، فتصفهم بالجهل الديني والتخلف الحضاري وبأنهم عقبة في سبيل التقدم والتطور ولذلك تسعى لتوطينهم وتدجينهم· والبدوي أساسا رجل دنيا أكثر منه رجل دين، حيث أن حياة الصحراء القاسية المتقلبة جعلت منه إنسانا يطلب البقاء ويبحث عن ما هو عملي ومفيد على هذه الأرض، وهو بعيد كل البعد عن الغيبيات· وبينما نجد السلوك الديني يقوم أساسا على الإيمان والاقتناع فإن السلوك القبلي من كرم وشجاعة وشهامة ومروءة يقوم على الاعتقاد بأصالة العرق ونقاء الدم ونبالة الأصل، أي أنه موروث بيولوجيا بحكم انتماء الفرد لقبيلته، حسب اعتقادهم· الأساس الأخلاقي للسلوك القبلي أساس مادي عملي تغذيه دوافع نفعية دنيوية أكثر منها دينية· فهو مثلا يحارب للكسب وليس طلبا للشهادة ويبذل ليس للصدقة بل ليقال عنه أنه كريم مما ينمي رصيده من النبل والسمعة الطيبة وقصائد المديح ويغلب على سلوك البدوي طابع التفاخر والمباهاة، على عكس السلوك الديني الذي يحث على التواضع وإنكار الذات·

والقضاء من أهم المسائل التي يتضح فيها التباين بين ثقافة الحضر وثقافة البدو ويحتد فيها التوتر بين الدولة والقبيلة· مثلما تختلف الأسس الشرعية التي يستمد منها الشيخ في القبيلة سلطته عن تلك التي يستمد منها الأمير في الحاضرة سلطته، كذلك تختلف المرجعية المعرفية الشفهية التي يستند عليها العارفة عند البدو عن تلك المرجعية المعرفية الكتابية التي يستند إليها القاضي والمطوع عند الحضر· ترى الدولة أن البداوة تتنافى مع القوانين المدنية والشرائع السماوية المكتوبة ولا تعترف بالأعراف القبلية الشفهية· وبينما يستند القضاء الشرعي في مرجعيته إلى نصوص منزلة فإن قضاء البادية يستند إلى "السوالف" وإلى "سلوم العرب" أي الأعراف القبلية والسوابق، مما يجعله أقرب في طبيعته إلى القوانين الوضعية· والدولة لا تعتبر الأعراف القبلية قوانين صالحة وتسمي عوارف البدو وقضاتهم "طواغيت"، على اعتبار أنهم يحكمون بغير ما أنزل الله وعلى اعتبار أن وظيفة العارفة تمثل امتدادا لوظيفة الكاهن في العصر الجاهلي، خصوصا وأنهم يصدرون أحكامهم القضائية بألفاظ مسجوعة على هيئة سجع الكهان، علاوة على لجوئهم إلى إجراءات قضائية وأساليب في القَسَم والتثبت من صدق المتهم لا يقبلها الحضر مثل أساليب البشعة بالنار وما شابه ذلك· وقضاة الحضر أصلا ينكرون ممارسات البدو من سلب ونهب ولا يقرون عاداتهم في الزواج والطلاق ويرفضون التعامل معها ومع غيرها من الممارسات التي يحرمونها أساسا، مثل زواج الخطف والزواج من امرأة مطلقة قبل استكمال عدتها، وحرمان النساء من الإرث، وكذلك تحجير بنت العم وعدم السماح لها بالزواج إلا من ابن عمها أو بإذن منه·

وفي عصرنا الحاضر انتهى الصراع بين الدولة والقبيلة وحُسم لصالح الدولة، لكن دور القبيلة لم ينتهي تماما حيث تحولت إلى مؤسسة من مؤسسات المجتمع المدني الأكثر فاعلية داخل الدولة الحديثة، وهذا ما نشاهده في السعودية ودول الخليج، خصوصا في الكويت، وحتى في العراق حيث نشاهد التمثيل القبلي يلعب دورا بارزا فيما يحدث الآن من خلال ما يسمى بالعملية الديموقراطية· ويحتوي نظام القبيلة، كجزء من إرثها السياسي، بذور الممارسات الديموقراطية، وإن بصورة بدائية· فأصحاب المناصب العامة عندهم، مثل الشيخ والعقيد والعارفة، يتم اختيارهم طواعية ومن منهم يثبت عدم كفاءته أو ينزع نحو الاستبدادية ينفض عنه أفراد القبيلة ويلتفون حول آخر غيره· ومجلس الشيخ أشبه بالبرلمان القبلي الذي تبحث فيه أمور القبيلة وتتخذ القرارات حولها بصورة جماعية· والنظام القبلي بطبيعته غير مثقل بالعقائد والأيديولوجيات المقيِّدة لأن هدفه الأساسي ووظيفته ضمان البقاء والاستمرارية للأفراد في وجودهم المادي الدنيوي، وهذا ما يصبغه بالصبغة العملية البراغماتيكية ويمنحه الحركية والمرونة الكافية للتكيف مع الأوضاع المستجدة والظروف الطارئة· وإذا نظرنا إلى القبيلة كواقع تنظيمي وممارسات سياسية (لا كحقيقة بيولوجية أو جينيولوجية، كما يتوهم البعض) فإن القبائل في مجتمعاتنا العربية هي الأكثر قابلية للتفعيل وقد تكون الأكثر تأهيلا لأن تلعب دور الأحزاب السياسية لو تحولت هذه المجتمعات إلى مجتمعات ديموقراطية برلمانية·

 







  

<<Previous   |  All Articles  |  Next>>