Please enable JavaScript in your browser preferences and then Reload this page!!!

الصفحة الرئيسية | السيرة الذاتية مراجعات أعمال د. الصويان الأعمال المنشورة | الصحراء العربية: شعرها وثقافتها | أساطير ومرويات شفهية من الجزيرة العربية
 الثقافة التقليدية مقالات صحفية في الأدب الشفهي مقالات صحفية بالعربية محاضرات عامة معرض صور تسجيلات صوتية موسيقى تقليدية
ديواني
| كتب في الموروث الشعبي مخطوطات الشعر النبطي أعمال قيد النشر لقاء تلفزيوني مع محطة العربية مواقع ذات علاقة العنوان

Home | Curriculum Vita | Reviews | Publications | Arabian Desert Poetry | Legends & Oral Narratives  
Traditional Culture
|
Articles on Oral Literature | Articles in SaudiDebate | Public Lectures |  Photo Gallery | Sound Recordings
Traditional Music
| Anthology | Folklore Books | Manuscripts | Work in Progress | TV Interview | Relevent Links | Contact

التغيير أمر لا مفر منه

سعد الصويان

"الله لا يغيّر علينا" دعاء كان يتردّد كثيرا على شفاه شيباننا الأولين وتلهج به ألسنتهم صباح مساء. يملأ أحدهم كرشته تمر ولبن أو قصاميل جراد ثم يفترش خيشته في ظلال جدار طيني عتيق ويتكئ على مرفقه ويبدأ يتاغر ويمسّح لحيته وبين كل بصقة وأخرى "عسى الله لا يغيّر علينا" (مع الاعتذار للفنان راشد الماجد). لو سمعته مجرد سماع دون أن تراه أو ترى الحالة التي هو فيها لخلته يتفسح بجانب أحد البحيرات في سويسرا أو واقفا يتأمل شلالات نياغرا أو يتزحلج على جليد جبال الألب. ولكن الحمد لله الذي لم يستجب لدعائهم وغيّر علينا من حالهم وما هم فيه من سغب وخوف إلى حال يظللها الأمن ويسودها الرخاء، وتحضّرنا وتَمَدّنا وأصبح الواحد منا يمسح بصاقه بمناديل الكلينكس بدلا من طرف كمه أو شماغه.

نحمد الله تمدّنّا

والجهاله راحت عنّا

وان ما راحت رحنا حنّا

يم الظبّه والا الوادي.

هذا الهرِم الذي فتكت الأمراض بجسده ونخرت الروماتزم عظامه ومفاصله يقضي سحابة نهاره يفترش الغبراء ويهش الذباب عن عينيه الذي أسدل عليهما الرمد غشاوة مثلما أسدلت الأمية غشاوة على تفكيره وحدت من آفاق رؤيته وبصيرته. ترسخت لديه القناعة بأنه ليس في الإمكان أفضل مما كان، لذلك هو يرفض التغيير. يرى أن طريقته في العيش هي الأفضل ولا يتسع أفقه الضيق لأي بديل آخر يختلف عن أسلوبه في الحياة. يحتقر أي طريقة في العيش تختلف عن طريقة عيشه ويهزأ من أي أسلوب في الحياة يختلف عن أسلوب حياته الذي ألفه وتعوّد عليه. هوايته التي يقضي بها وقت فراغه، وكل وقته فراغ، هي السخرية من الغير والهزء من الآخر. مجرد اختلافك عنه في الزي أو اللهجة يعرضك لنقده اللاذع، فما بالك بما هو فوق ذلك؟! إنه ينبذ الغير مثلما يرفض التغيير.

لكن مهما حاولت ثقافتنا التقليدية أن تتجاهل التغير وترفضه وتقف في وجهه فإن التغير حقيقة كونية لا مفر منها وهو آت لا محالة، فأنت لا تقدر على "رد السيل بعباتك". إن كل يوم تشرق فيه الشمس هو يوم آخر غير الأمس. كل نبضة من نبضات قلبك تضخ دما جديدا في عروقك، وعلى قولة هيراكليتيس "أنت لا تعبر النهر مرتين، لأن مياهه تكون قد تغيرت وأصبح نهرا آخر في عبورك الثاني له".

بعد اكتشاف الجاذبية وقوانين الحركة التي تسير هذا الكون بما فيه من شموس وكواكب بدأ الإنسان يتساءل عن نشأة الكون وعمره. ومع تقدم الأبحاث الفلكية والجيولوجية بدأ عمر الكرة الأرضية يتراجع ويمتد ليقفز من مئات الآلاف إلى مئات الملايين من السنين. كما أنه بفضل الأبحاث الأركيولوجية والأنثروبولوجية قفز عمر الإنسان على الأرض من الآلاف إلى مئات الآلاف من السنين التي تزيد أو تنقص تبعا لطبيعة الأدلة التي نحتكم إليها. ومع اكتشاف المنظومة الشمسية والدورة الدموية بدأ يطغى مفهوم "النظام" على التفكير العلمي. وعرّف العلماء النظام بأنه كل يتألف من وحدات تقوم بينها علاقات وتفاعلات تمليها طبيعة هذا النظام. وتدخل الأنظمة الصغيرة مع بعضها في تكوينات نظامية أكبر. والعلاقات الديناميكية القائمة بين وحدات النظام في حركة دؤوبة لا تستقر.

وعلى هذا المنوال بدأت تتراكم الشواهد العلمية التي تشير إلى أن الحركة ليست عملية عشوائية ولا حدث فردي وإنما هو مفهوم عام يحكم الكون كله وأن التغير ناموس من نواميس الطبيعة الذي يخضع لنظام يسيره من البساطة إلى التعقيد ومن التشابه إلى التمايز. وعلى هذا الأساس تقوم نظرية التطور التي تعد، بعد اكتشاف الجاذبية والنظام الشمسي، أعظم خطوة على مسيرة تقدم الفكر الإنساني.

وهكذا تبين أن النظرة السكونية لهذا العالم نظرة بدائية ماقبلعلمية تقوم على التفسيرات الأسطورية لنشأة الكون وتقوم على أساس أن الأرض وغيرها من الكواكب والأجرام السماوية أشياء ثابتة لا تتحرك ولا يقوم بينها أي علاقة أو نظام. هذه النظرة السكونية انعكست على مفهوم الزمن فثبتته وألغت فكرة التغير والتطور وألغت حركة التاريخ. في ظل الرؤية السكونية للكون يعيش الإنسان خارج الزمن وتقتصر نظرته إلى التغير على ملاحظة حالات فردية من الأشخاص والأشياء التي يصادفها في حياته ويراها تشيخ وتبلى أمام ناظريه. التغير وفق هذه النظرة ليس قانونا طبيعيا يسير هذا الوجود ويحكمه، وإنما مجرد أحداث فردية عشوائية يعايشها الإنسان ويمر بها في تجربته الشخصية وهو يكبر ويتقدم به العمر نحو الشيخوخة والهرم، ثم الفناء.

والتفسير الأسطوري لنشأة الكون يضيف بعدا آخر لمفهوم الزمن البدائي. إنه يقود بالضرورة إلى ما يمكن أن نسميه النظرة الارتجاعية في تفسير التاريخ. التاريخ البشري، وفق هذه النظرة، يسير بانحدار نحو هاوية محتومة. هكذا يصبح كل زمن أفضل من الزمن الذي يليه وأفضل الأزمان أولها وأسوأها آخرها. هذه النظرة تضفي على القديم شيئا من القدسية والرهبة يصعب الانفلات منهما وتقود إلى الاعتقاد بأن الجنس البشري، وكل شيء آخر في هذه الدنيا، يسير في طريق الانحلال والضعف والشيخوخة والانحطاط، ماديا ومعنويا، بدنيا وعقليا وخُلقيا، وكذلك عمرانيا. إن أي تغيير يطرأ على أي شيء في هذا الكون هو حتما تغير إلى الأسوأ، إلى الفساد. وعلى هذا الأساس شاع مثلا بين علماء اللغة الكلاسيكيين عندنا مفاهيم مثل مفهوم "فساد اللغة"، وهو مفهوم مدجج بالأيديولوجيا، بدلا من مفهوم "التغير اللغوي" الذي يبدو أكثر حيادية.

الزمن كفيل بتغيير أي شيء وكل شيء. التغير ضرورة يحتمها عامل الزمن وهو لا يقتصر على الأشياء الحسية فقط، بل يعتور حتى الأشياء المعنوية، بما في ذلك السلوك الإنساني وظواهر المجتمع. قد يكون التغير تدريجيا وغير محسوس لكنه يتراكم على مر الزمن ليصبح أمرا ملحوظا. وقد توجد عوامل تاريخية وحضارية تساعد على دفع حركة التغير وتعجل بنتائجه.

والتغير حقيقة مكانية مثلما هو حقيقة زمانية. المكان لا يقل أثرا عن الزمان كعامل من أهم عوامل التغير التي تعتور الأشياء وكسبب من أهم الأسباب المؤدية إلى الاختلافات التي تميز المجتمعات البشرية وتمنح كل منها سمات التفرد والخصوصية. لا يمكن لأي شيء أن يفلت من قبضة الزمان والمكان ومن ثم حتمية التغير والتحول. من المستحيل أن يكون الشيء هو الشيء نفسه من لحظة لأخرى أو من مكان لآخر. الاختلاف ضرورة تحتمها متطلبات التكيف مع البيئة والتأقلم مع المحيط والاستجابة للعوامل المؤثرة. لذا فإن الاختلافات والفوارق بين عناصر الثقافة من مجتمع لآخر أمر طبيعي يحتمه عامل الزمان والمكان، وحتى في البلد الواحد نجد اختلافا بين الشرق والغرب وبين الشمال والجنوب.

بعد الاكتشافات الحديثة في الفلك والجيولوجيا والأركيولوجيا تصحح مسار التاريخ وانعدل اتجاهه من الخلف إلى الأمام، نحو التطور والتقدم. ومع تقدم البحث العلمي تبين أن التغير قانون طبيعي وآلية قسرية لا يمكن الوقوف في وجهها. وبذلك تغيرت النظرة إلى الماضي والمستقبل وأصبح الناس يحاولون فهم التغير والتعامل معه تعاملا ديناميكيا وعقلانيا بعد أن كانوا يخشونه ويقفون ضده. من المهم أن نعي حقيقة التغير حتى نتمكن من إعداد العدة للقادم ومن الاستعداد للمستقبل وحتى لا تداهمنا أحداث الزمن المتغير فنجد أنفسنا منشغلين بإدارة الأزمات بدلا من التخطيط والبناء. الأمم المتحضرة التي تتسلح بسلاح العلوم العصرية لم تعد تكتفي بالتخطيط للمستقبل، بل لقد أصبح لديها من القدرات ما يمكنها من ممارسة قدر من التدخل الواعي وتوجيه أحداث المستقبل نحو الخطط التي ترسمها.

 







  

<<Previous   |  All Articles  |  Next>>