Please enable JavaScript in your browser preferences and then Reload this page!!!

الصفحة الرئيسية | السيرة الذاتية مراجعات أعمال د. الصويان الأعمال المنشورة | الصحراء العربية: شعرها وثقافتها | أساطير ومرويات شفهية من الجزيرة العربية
 الثقافة التقليدية مقالات صحفية في الأدب الشفهي مقالات صحفية بالعربية محاضرات عامة معرض صور تسجيلات صوتية موسيقى تقليدية
ديواني
| كتب في الموروث الشعبي مخطوطات الشعر النبطي أعمال قيد النشر لقاء تلفزيوني مع محطة العربية مواقع ذات علاقة العنوان

Home | Curriculum Vita | Reviews | Publications | Arabian Desert Poetry | Legends & Oral Narratives  
Traditional Culture
|
Articles on Oral Literature | Articles in SaudiDebate | Public Lectures |  Photo Gallery | Sound Recordings
Traditional Music
| Anthology | Folklore Books | Manuscripts | Work in Progress | TV Interview | Relevent Links | Contact

الوجه من الوجه أبيض

سعد الصويان

لا أدل على أهمية وجه الإنسان من كثرة الأمثال والعبارات الشعبية والفصيحة المتعلقة به. جاء في تاج العروس "يطلق الوجه على الذات لأنه أشرف الأعضاء وموضع الحواس". فالوجه هو الموقع الذي تجتمع فيه الحواس، خصوصا العينان اللتان بهما نبصر والأنف الذي به نتنفس ونحيا والفم الذي به نتكلم ونعبّر. تأتي أهمية الوجه أولا من أنه أهم علامة على إنسانية الإنسان وما يميزه عن الحيوان، وثانيا لأنه هو عنوان الشخص الذي يحدد هويته بذاته ويميزه عن غيره من الأشخاص، فنحن نعرف الشخص من وجهه، كما في قولنا "وجهٍ تَعَرفُه ولا وجهٍ تنْكره" بمعنى شخص تعرفه خير لك من شخص لا تعرفه. وإذا أردنا أن نعبر عن هوية الفرد ونشخصه أشرنا إلى وجهه كما في قولنا بالعامية عن فلان من الناس أنه "وجه سمح" بمعنى أنه بشوش ولين العريكة، وعلى العكس من ذلك قولنا "وجهٍ وَدِر" أو "وجهٍ غَبَر" أو "وجهٍ كَلْح" ونقصد بذلك أنه نزر قليل المروءة. وإذا أردنا من شخص مغادرة المكان ننهره ونقول "ظف وجهك". وغالبا ما توجه عبارات المدح أو القدح أو عبارات التكريم أو الإهانة إلى وجه الشخص بينما هي تعنيه هو وكأننا بذلك نختزل شخصيته وقيمته في وجهه، كأن نقول "فلان وجهٍ مبارك" أو "الله يخِسّ هكالوجه" أو "قبّح الله وجهه" أو "كرّم الله وجهه".

والوجه هو الذي يعكس العواطف والانفعالات والأحاسيس، كما في قولنا بالفصحى "انطلقت أساريره" للتعبير عن الفرح والسرور، أو "زمّ بأنفه" للتعبير عن الكِبر، أو "احمرّت وجنتاه" للتعبير عن الخجل، أو قولنا في العامية "انعقد حجاجه" للتعبير عن الغضب أو "خرطم"، أي تهدلت براطمه، للتعبير عن الزعل. ونقول للإنسان المنافق أنه "ابو وجهين" وللشخص الذي لا يخجل "وجه ابن فهره" بمعنى أن وجهه مثل الفهر، أي الحجر، لا تتغير ملامحة ومعالمه ولا يبدو عليه الحياء والخجل إذا فعل أمورا مشسينة، ومثله قولهم "وجهه ما يندّي" بمعنى لا يندى جبينه ولا ينضح بالعرق خجلا من سوءاته، ويقولون"وجهه مغسولٍ بِمْرِقِه" أي بلغ حدا من الاتساخ بحيث لا يبين عليه أي عيوب أو مخازي إضافية. ومن أمثال العامة "الوجه فِتر" والفتر أقل من الشبر، وهو المسافة من طرف الإبهام إلى طرف السبابة إذا مُدّا، بمعنى أن مساحته ضيقة لا تتسع طياتها لإخفاء ما يدنس العرض ويخل بالشرف. وإذا أردنا من شخص أن يلزم الحياء نقول "استح على وجهك". وإذا أردنا أن ندعو على الشخص نقول "الله ياخذ وجهك". والبصق على الوجه أو صفعه من الإهانات التي لا تحتمل. وحينما يتعلق الأمر بكرامة الإنسان نتحدث عن حفظ ماء الوجه وعن إراقة ماء الوجه.

وكل جزء من أجزاء الوجه له رمزية وأهمية خاصة. فنحن نقسم بعيوننا وبها نفدي من نحب. وإذا أردت أن تبدي استعدادك لخدمة شخص آخر تقول "على خشمي" ولو أردت أن  ترغم شخصا على عمل ما تأمره به تقول له "فَركٍ على خشمك" وبالفصحى "رغما عن أنفك"، لأن الأنف هو الذي توضع به بُرة الرسن الذي يقاد به الحيوان قسرا. وشعر الوجه بالذات له أهمية خاصة، وبالذات شعر الشارب واللحية، ومعلوم أن سر قوة شمشون الأسطوري في شعر وجهه. وأكبر إهانة توجه للشخص هي نتف لحيته أو شاربه أو حلقهما أو توجيه عبارات بذيئة لهما. ونمدح الرجل بأنه "لحيةٍ غانمه" ونسبه قائلين بأنه "لحية عفنه". ويقول الرجل عن نسائه ومحارمه أنهن "شعر وجهه"، بمعنى أنه يحافظ على عرضهن مثلما يحافظ على شعر وجهه. ولو أنك أردت أن تلتزم بالقيام بمهمة صعبة تقول "بهالشارب" وتفتل شعر شاربك، عبارة عن العزم والتصميم. وتعبر عن رجاءك الحار وتضرعك لشخص اخر بأن تلمس بطرف أصابعك شعر لحيته أو شاربه ثم تقبل أصابعك.

وفي المجتمعات الأمية التي لا تعرف القراءة والكتابة يقوم المسح على الوجه واللحية مقام التوقيع والمصادقة على العقود والالتزام بما تم الاتفاق عليه من وعود وعهود. أي أمر تلتزم به ويقع في نطاق مسؤوليتك فهو في وجهك، ولو أردت أن تضع أي شيء في عهدة شخص ما أو أن تلزمه بتنفيذ أمر ما تقول له إن هذا الشيء في وجهك، بمعنى أنك ملزم معنويا بتنفيذه أو بالمحافظة عليه. ويقولون "الوجه من الوجه أبيض" كناية عن وفاء الشخص بالتزاماته تجاه شخص آخر وإخلاء مسؤوليته على أكمل وجه.

نظرا لهذه الأهمية اتخذ الوجه معنىً مجازيا يرمز لكل ما يتعلق بشرف الإنسان وهيبته وسمعته وصيته ومكانته ووزنه الاجتماعي. يرمز الوجه للعزة والمنعة وشوكة صاحبه وقوته، ويمثل الرصيد المعنوي والأخلاقي الذي يحدد قيمة الشخص ونباهة قدره وتقدير الناس لشخصه واحترامهم له. ومن هنا جاء قولنا عن الأشخاص المعتبرين الذين يحظون باحترام الناس وتقديرهم أنهم وجهاء المجتمع. لا شك أن الرصيد المعنوي والأخلاقي للإنسان يعتمد على استقامة الخلق والتحلي بصفات الوفاء والصدق والأمانة. هذه الصفات ضرورية لكنها وحدها لا تكفي ليكون الإنسان وجيها، فلا بد من قوة مادية تسندها مثل الثروة التي تمكّن الإنسان من أن يكون كريما والشجاعة اللازمة للوقوف دائما مع الحق وكذلك العصبة القوية التي تقف مع الإنسان وتسانده عند الحاجة لتحمل مسؤولياته والوفاء بالتزاماته. من يفتقر إلى هذه المقومات يفتقر إلى الوجاهة. ولذلك فإن وجه الرجل العادي ليس له من الوزن ما لوجه السيد والشيخ والفارس ومن في حكمهم من سراة القوم وأصحاب الثروة والنفوذ. أما البخيل والجبان والكاذب والخائن والمنافق ومن لا يحترمون العادات والتقاليد ولا يقيمون وزنا للأعراف والقوانين فلا اعتبار لهم ولا أحد يحترمهم وليس لهم جاه، فهؤلاء مرذولون لا تقبل شهادتهم ولا تقدم لهم القهوة في مجالس الرجال. الوجه كرصيد معنوي وأخلاقي وكمقياس لمكانة الشخص ومركزه الاجتماعي يزيد وينقص بحسب استقامة خلق الإنسان وابتعاده عن المخازي وقدرته على تحمل مسؤولياته والوفاء بالتزاماته وتعهداته، وكلما تهاون المرء في هذه الأمور كلما أراق ماء وجهه. لذا يبذل الإنسان كل ما في وسعه للحفاظ على وجهه، بل ولزيادة رصيده من الوجاهة، ولا يتهاون بأي حال من الأحوال تجاه أي استخفاف بوقاره أو انتقاص لمقامه أو تعد من قبل الآخرين على وجهه أو النيل من سمعته بالقذف أو السب أو الشتم، ويسمون هذا النوع من الانتقاص أو التعدي "فسر الوجه" أو "تقطيع الوجه"، وهو أمر خطير لا يستهينون به أبدا. ويدخل ضمن نطاق تقطيع الوجه أي عمل أو قول ينتج عنه الإساءة إلى سمعة الشخص ووقاره وخدش كرامته والحط من قدره أو إحراجه أو اهتزاز مكانته الاجتماعية واظهاره بمظهر الضعف وقلة الحيلة. والرجل الذي يُقطع وجهه بهذه الطريقة يقولون عنه إن "بيته مهزوز ورجمه مغزوز". لأنهم يبنون له رجما من الحجارة السوداء تعبيرا عن الاستنكار الذي يعبرون عنه بسواد الوجه.

في المجتمعات القبلية التي تفتقر إلى سلطة تضطلع بمهمة حفظ الأمن والنظام وتطبيق القانون، يتخذ مفهوم الوجه أهمية خاصة كأداة من أدوات الضبط الاجتماعي التي تضمن حماية حياة الأفراد وحقوقهم. فبدون هذه المؤسسة الاجتماعية يتعذر تطبيق القانون العرفي ولا يمكن للعدالة أن تأخذ مجراها. الوجه يكسب قرارات القضاء العرفي عنصر الإلزام من خلال العمل على تنفيذها. فكثير من أحكام القضاء العرفي كان من الصعب أن تشق طريقها إلى التنفيذ لولا وجود الوجه الذي يلزم كل طرف بتنفيذها من ناحية واحترامها من ناحية أخرى.

يقوم وجهاء القبائل بحل الخلافات والنزاعات بين الخصوم إما عن طريق الصلح والتراضي أو، إن تعذر ذلك، بتقديم الضمانات والكفالات اللازمة بأن يمتثل الطالب والمطلوب لحكم القضاء في حالة التقاضي أمام العوارف. ومن أجل أن تكون أحكام القضاء العرفي نافذة المفعول في ظل غياب السلطة المركزية ولضمان أداء الحقوق يلجأ المتقاضون إلى الكفالة، حيث يطلب من المتخاصمين، الطالب والمطلوب، أن يسمي كل منهما كفيلا يكفل بتنفيذ ما التزم به تجاه الطرف الآخر. وإخلال المكفول بالالتزامات التي ضمنها كفيله للطرف الآخر يعد إهدارا لوجه ذلك الكفيل وإحراجا له واحتقارا لمكانته وهيبته، أو كما يقولون "قطّع وجهه". في حالة تقطيع الوجه، يُعتبر الكفيل بحكم المعتدى عليه من قبل مكفوله الذي داس هيبته ومرّغ سمعته في التراب، أو كما يقولون "سهج وجهه" أو "سوّد وجهه" وهنا إما أن يلجأ الكفيل إلى القوة والثأر من مكفوله الذي سود وجهه، أي شوّه سمعته، أو إلى القضاء لإجبار مكفوله على الوفاء بما عليه من التزامات تجاه خصمه وكذلك لغسل العار وتعويضه هو، أي الكفيل، عما لحق بسمعته من ضرر معنوي تجاه التصرف اللامسؤول لمكفوله. وقد تصل غرامة تقطيع الوجه في القضايا المهمة إلى ثمانين ناقة وضحاء، والنوق الوضح ترمز لغسل العار وتبييض الوجه بعدما ناله من السواد.

هذا في المجتمعات القبلية التقليدية الشفاهية، أما في المجتمعات الكتابية المتحضرة فإن التواقيع والأختام وتصاديق المحاكم والغرف التجارية تحل محل وجوه الرجال التي ضاعت في الزحام وذابت في أحبار العقود الموقعة والصور الفوتوغرافية وحلقت لحاها وشواربها طواعية بمحض إرادتها.

 







  

<<Previous   |  All Articles  |  Next>>